الاتجاهات النظرية الحديثة في تفسير التنظيم الاجتماعي

إن تقادم الاعوام والعقود الزمنية ، جعل الاهتمام بموضوعة التنظيم الاجتماعي يتسع شيئا فشيئا ، ويأخذ مسارات متنوعة ، غير التي امررنا عليها سلفا ، لتجيء اخرى اكثر تنوعا ، وربما وهو لسان حال اصحاب النظريات الحديثة ، عدم كفاية المداخل النظرية السابقة في تغطية الموضوع برمته ، ويأتي تبرير التنوع النظري الحديث الى ان التنظيم بحد ذاته موضوعا لكثير من العلوم كالاقتصاد والسياسة والادارة وعلم النفس والانثروبولوجيا فضلا عن علم الاجتماع . وقد جاءت النظريات الحديثة كمحاولة للتحقق من صدق القضايا العامة والتعميمات الفضفاضة التي تضمنتها الدراسة النظرية السابقة ، لكن مع ظهرت اتجاهات اخرى لتقدم اطر نظرية مستقلة عن التحليلات النظرية الكلاسيكية في دراسة التنظيم . وفيما يلي نعرض لثلاث اتجاهات نظرية حديثة في دراسة التنظيم هي : الاتجاه البنائي الوظيفي ، واتجاه النسق الاجتماعي الفني ، والاتجاه النفسي الاجتماعي .

اولا : الاتجاه البنائي الوظيفي في دراسة التنظيم

  1. تالكوت بارسونز والنسق الاجتماعي

لعل واحدة من اعقد النظريات الاجتماعية تلك هي نظرية بارسونز ، التي تشّبه بلعبة الصناديق الصينية كلما اردنا فتح واحدة خرجت الاخرى وهكذا دواليك . واذا ما أريد فهم نظرية بارسونز ، لابد من الرجوع الى نسقه الفكري العام ، من خلاله راح بارسونز يطبق نظريته الشهيرة في النسق الاجتماعي على التنظيم ، ليكشف بعد ذلك عن بناء التنظيمات ووظائفها .

بادئ ذي بدء ، انطلق بارسونز من رؤية التنظيم الاجتماعي بوصفه نسقا اجتماعيا يتألف من انساق فرعية اخرى ومختلفة مثل : الجماعات ، والاقسام ، والإدارات (…) الخ ، وينظر للتنظيم هنا بدوره نسقا فرعيا يدخل في اطار نسق اجتماعي اكبر واشمل ذلك هو المجتمع ، وقد حلل التنظيم في سياق قيمي نظامي ، أي ان هناك ثمة توجيهات قيمية سائدة في التنظيمات . فالقيم السائدة في التنظيم هي التي تمنح أهدافه طابعا شرعيا ، ولعل ذلك يذكرنا بما اورده لاحقا ماكس فيبر في حديثه عن الموجهات القيمية في السلطات كالسلطة التقليدية مثلا ، ومن ثم ، فأن القيم هنا تؤكد إسهام النسق التنظيمي في تحقيق المتطلبات الوظيفية التي يسعى النسق الاكبر ـ أي المجتمع ـ الى تحقيقها ، وفي ظل هذه الازدواجية ( نسق تنظيمي ـ نسق مجتمعي ) ، لا بد ان يتوافر في السياق نوع من الانسجام بين قيم التنظيم وقيم المجتمع الذي يوجد فيه ، وبناءً على الشرعية التي يكتسبها التنظيم من نسق القيم ، فأنه يستطيع بعد ذلك ، أن يعطي الأولوية لأهدافه الأساسية على أهداف أنساقه الفرعية المكونة له ، وبهذا يحدد التنظيم مكانته في المجتمع ، كما يحدد مواقفه تجاه أي منافسة خارجية قد تنبري لتهدده. فالنسق القيمي في التنظيم ، هو من يحدد الظروف الداخلية والخارجية التي يواجهها التنظيم ، وهي ذاتها تجعل التنظيم دائما في كفة الميزان الأقوى والأكثر سيطرة على الكفة الأخرى ، وأي معارضة قد تظهر فأن التنظيم يتصدى لها بوصفه يمتلك الشرعية في ذلك ، لذلك نرى بارسونز يعرف التنظيم : ” نسق اجتماعي منظم ، أنشئ من اجل تحقيق أهداف محددة ” .

                                                           قيم التنظيم

                         نسق تنظيمي                                                  نسق مجتمعي

                                                           قيم المجتمع

مخطط توضيحي لانسجام وتناغم الأنساق دون إرباك للإطار

لكن رغم وجود الانسجام بين النسقين التنظيمي والمجتمعي ، الا ان بارسونز لم يذهب الى حد المطابقة التامة بينهما ، اذ اوضح ان التنظيمات تتميز بأنها وحدات اجتماعية لديها اهداف محددة وواضحة نسبيا تسعى الى تحقيقها ، ولكي تتحقق هذه الأهداف لابد من وجود إجراءات تنظيمية تضمن تحقيق هذه الأهداف . ومن ثم فأن وضوح الأهداف وتوافر الإجراءات يمنحان التنظيم طابعا يميزه الى حد ما عن المجتمع . ومن خلال النسق القيمي وأهداف التنظيم ايضا تتم عملية التكامل للافراد والجماعات في التنظيم ، وبتحقق هذا التكامل تتحدد الادوار التنظيمية لتصبح ملائمة لتوقعات الافراد في التنظيم ، هذه التوقعات التي يكتسبها الافراد من خلال عملية التنشئة الاجتماعية ، ويتدعم هذا التكامل بوجود انماط معيارية محددة تنظم العمليات المختلفة التي من خلالها يتم مواجهة المتطلبات الوظيفية التي يفرضها . تلك المتطلبات التي من شانها إحداث توتر في النسق ، لكن الانماط المعيارية تعمل على اعادة التوازن وتدعيم التكامل .

ويرى بارسونز ، ان هناك أربعة متطلبات وظيفية أساسية يتعين على كل نسق ان يواجهها اذا ما أراد البقاء ، اثنان منهما ذوا طابع آلي وهما : المواءمة ، وتحقيق الأهداف ، وهما يتعلقان بعلاقة النسق ببيئته . اما الاثنان الآخران فهما : التكامل ، والكمون ، وهذان يعبران عن الظروف الداخلية للنسق ، وعلى التنظيم بوصفه نسقا اجتماعيا ان يواجه هذه المتطلبات . ويقصد بارسونز بمطلب المواءمة ، كيفية ادارة مشكلة تدبير كل الموارد البشرية والمادية الضرورية لتحقيق أهداف التنظيم ، بمعنى اخر ، ما الذي يتطلبه التنظيم سواء من مهارات أو موارد ، وهنا يأتي دور الانماط المعيارية التي تنظم عمليات التمويل للتنظيم . اما مطلب تحقيق الأهداف ، فأنه يتمثل في تحقيق كل ما من شأنه تحقيق أهداف التنظيم ، كحشد كل الموارد التنظيمية ، التي تحققت بفضل مطلب المواءمة ، ومن الواضح ان نجاح تحقيق الأهداف يتوقف أولا على ملائمة الوسائل للغايات او الأهداف ، وادخل بارسونز في هذا المطلب تحديدا عملية اتخاذ القرار في التنظيم والعمليات المختلفة المنظمة لها ، بل انه قصر مشكلة القوة في التنظيم على مسألة حشد الموارد من أجل تحقيق الأهداف ، لذلك نراه يعرف القوة : ” القدرة على حشد الموارد من أجل تحقيق أهداف النسق ” .

أما مطلب التكامل ، فقد قصد منه بارسونز ، العلاقات بين الوحدات ، وخاصة تلك العلاقات التي تضمن تحقيق أعلى مستوى من التضامن والتماسك بين الأنساق الفرعية . وأخيرا فان مطلب الكمون ، يشير مدى ملائمة الظروف السائدة في الأنساق الفرعية للظروف السائدة في النسق الأكبر . هذا ويشير مطلب الكمون الى مطلبين وظيفيين فرعيين ، اطلق بارسونز على الاول منهما : مطلب تدعيم النمط ، وهو يتعلق بمدى الانسجام والتطابق بين الادوار التي يؤديها الفرد في التنظيم والادوار التي يقوم بها في الجماعات الخارجة عن التنظيم كالأسرة مثلا ، وهذا بدوره يتطلب وجود ميكانزمات او اليات تساعد على خلق انسجام نسبي بين التوقعات التنظيمية والتوقعات التي تحدث خارج نطاق التنظيم . في حين اطلق على المطلب الثاني : احتواء التوترات التنظيمية واستيعابها ، ويتحقق ذلك من خلال ضمان وجود دافعية لدى الافراد في التنظيم لكي يستطيعوا أداء مهامهم التنظيمية .

وفي ضوء معالجته للمتطلبات الوظيفية للتنظيم ، فقد اشار بارسونز الى ان ثمة تصنيف للتنظيمات ، فهناك تنظيمات اقتصادية تسهم في حل مشكلة المواءمة في المجتمع ، وثانية سياسية تسهم في حل مشكلة تحقيق الاهداف ، وثالثة تكاملية ، ورابعة تسعى الى تدعيم النمط . ولتفادي المشكلات التي تواجهها الدراسات المعنية بالتنظيم ، فقد عمد بارسونز الى اضافة تصنيف داخلي للتنظيم ، اذ انه ميز بين ثلاث مستويات او انساق فرعية في التنظيم ، كان اولها ، ما أسماه بالنسق الفني ، وهو يهتم بكافة النشاطات الفنية التي تسهم بشكل مباشر في انجاز أهداف التنظيم ، وثانيها ، النسق الاداري ، الذي يتوسط النسق الفني والبيئة المباشرة ، ومن وظائفه انه يتولى تدبير الموارد أو المصادر الضرورية وايجاد عملاء يقومون بتصريف او تسويق منتجات التنظيم ، وثالثها النسق النظامي ، وظيفته انه يعمل على الربط بين النسق الفني والنسق الاداري من جهة والمجتمع من جهة اخرى ، ويكشف هذا التصنيف البارسونزي عن حقيقتين ، الاولى : انه يبين أن لكل نسق فرعي وظائف مختلفة يؤديها ، والثانية : انه يتضمن ترتيبات بنائية مختلفة هي الاخرى ، من خلالها يستطيع النسق مواجهة متطلباته الوظيفية ومشكلاته .

لا ريب ، بعد هذا الشرح المقتضب ، يمكننا القول : ان بارسونز حاول جاهدا اظهار الخصائص التكاملية للنسق الاجتماعي عموما ، وفي سبيل ذلك قدم الميكانزمات ( الاليات ) التي من خلالها يمكن للنسق ان يحقق التكامل . ولعل هنا يأتي استعتاب بارسونز على عدم ايلاءه الأهمية الواسعة لحالات التغير والصراع في التنظيمات ، سواء تطويعها بالطريقة التي تخدم المظاهر التكاملية ، لذلك فأننا نلحظ بارسونز يميز بين نوعين من التحليل ، الاول : تحليل ” التوازن ” كما يتبدى في النسق ، والثاني : ” التغير البنائي ” الذي يسعى بارسونز الى فهمه ودراسته من خلال منظور التوازن ، وفي سياق ذلك ، اوضح ان هناك مصدرين للتغير في التنظيم ، الاول : التغير الذي يتم من الخارج ، حينما تمارس البيئة ضغوطا على التنظيم ، والثاني : التغير الذي يتم من الداخل ، حينما تنشأ هذه الضغوط من داخل التنظيم ذاته . واذا ما واجه التنظيم تأثيرات الضربان من التغير ، فلا بد من التكيف معهما ، ليضمن درجة عالية من الفعالية والاستمرار ، ومن ثم ، تعبر تلك الاستجابة عن حالة اطلق عليها بارسونز ” التوازن الدينامي وهو كما يبدو ، يمثل جوهر التحليل الوظيفي لبارسونز .ولعل بعد هذا التوضيح ، يُفسر لماذا تجاهل بارسونز دراسة حالات التغير والصراع التي تحدث في التنظيم ، لنضف اليه ، انه كان وظيفيا يهتم بدراسة نتائج الفعل اكثر من اهتمامه بدراسة اسبابه ومصادره .

  1. روبرت ميرتون وفكرة المعوقات الوظيفية

أضاف ميرتون إسهاما ملفتا ومتميزا في التنظيم ، يختلف عما سبقه من إسهامات انطلقت جميعها من فكرة البناء الوظيفي في علم الاجتماع ، ويعلل ذلك السبق الى عدم تسليم ميرتون أصلا بفكرة المماثلة العضوية التي تبناها أصحاب الاتجاه الوظيفي ، وما ينبني على ذلك من تصور التنظيم بوصفه نسقا اجتماعيا مكون من أجزاء ذات تساند متبادل ، فضلا عن أن إسهام ميرتون أيضا كان بمثابة رد فعل لنظرية ماكس فيبر في التنظيم وواضحا ـ كما أسلفنا ـ أن الأخير أكد على المظاهر الرشيدة في التنظيم . وعموما فان ميرتون اهتم بما أسماه بـ ” النظرية المتوسطة المدى ” وحتى يؤسس لهذه النظرية فقد استخدم ثلاثة مفاهيم او ادوات تحليلية هي : الوظائف الكامنة ، او غير المتوقعة في مقابل الوظائف الظاهرة ، والمعوقات الوظيفية في مقابل الوظيفية ، والبدائل الوظيفية ، وقد اشار ميرتون بان المجتمع يعد قادرا على العمل بحكم شكل التنظيم الذي يتخذه .

وفي مقاله الشهير ” البناء البيروقراطي والشخصية ” 1940 ، أكد على فكرة أساسية هي ان اعضاء التنظيم يستجيبون لمواقف معينة في التنظيم ، ثم يتخذون من هذه الاستجابة اسلوبا يسقطونه على مواقف مماثلة وحين تحدث هذه الحالة ، تنشأ نتائج غير متوقعة أو غير مرغوبة فيها بالنسبة للتنظيم . ثم راح يؤكد فكرة أخرى ، هي ان التغير الذي يطرأ على شخصية أعضاء التنظيم ينشأ عن عوامل كامنة في البناء التنظيمي ذاته ، بمعنى اخر ان الشخصية تشير بصفة عامة الى أية علاقة ثابتة بين منبه معين واستجابة معينة ناجمة عنه . ولكي يستمر انتظام واستمرار السلوك داخل التنظيم فلا بد ـ حسب ما اوضح ميرتون ـ ان يكون هناك ضبط تمارسه المستويات الرئاسية العليا في التنظيم ، ومن ثم ، فأن وجود الضبط يتطلب توافر اجراءات مقننة تتخذ باستمرار طابعا نظاميا ، ولكي يتأكد الاخير لا بد ايضا من متابعة تنفيذ هذه الاجراءات . وعطفا على ذلك ، رتب ميرتون ثلاثة ، النتيجة الاولى : تشير الى تناقص أو تضاؤل العلاقات الشخصية ، لان التنظيم البيروقراطي في حد ذاته هو مجموعة العلاقات التي تنشأ بين الوظائف أو الادوار ، والموظف ذاته يتفاعل مع الآخرين في التنظيم بوصفه ممثلا او شاغلا لوضع اجتماعي يتضمن حقوقا وواجبات ، والنتيجة الثانية : تشير الى زيادة استيعاب أعضاء التنظيم لقواعده ومعاييره ، ذلك أن هذه القواعد توضع أصلا لكي تضمن تحقيق أهداف معينة تنطوي على قيمة ايجابية مستقلة عن أهداف التنظيم ، وفي هذا السياق ، قدم ميرتون مفهومه عن  ” استبدال الأهداف ” ، ثم ميز بين حالتين يتحقق من خلالهما : الأولى تتم حينما يظهر مثير معين يترتب عليه ظهور نشاط معين يعتقد أنه سيؤدي الى نتيجة مأمولة أو مرغوب فيها ، واذا ما تكرر هذا الموقف ويحدث اختيار متكرر لبديل مقبول ، فأن ذلك يؤدي الى تحول تدريجي في الاختيار ليصبح مسألة آلية . وقد أوضح ميرتون بعد ذلك ، ان هذه النتائج الثلاثة تسهم في إمكان التنبؤ بسلوك أعضاء التنظيم ، واذا ما تحقق هذا التنبؤ أصبح هذا السلوك ثابتا جامدا . وهنا لم يكتف ميرتون في بيان طبيعة السلوك في التنظيم ، بل راح ايضا يرتب ثلاثة نتائج في هذا السياق : الاولى : أنه يحقق المتطلبات الوظيفية التي يفرضها ثبات السلوك ، بمعنى ان الجمود هنا يقابل الحاجة الاساسية للنسق وهي التدعيم ، والثانية : أنه يزيد من القدرة على الدفاع عن أفعال الفرد وتصرفاته ، والثالثة : أنه يزيد من صعوبة التعامل مع عملاء التنظيم مما يؤدي الى عدم تحقيق رضائه . وهكذا يبدو ان ميرتون قدم صورة اخرى للتنظيم تختلف عن الصورة التي قدمها فيبر ، فاذا كان الضبط الذي تمارسه القواعد يؤدي كما ذهب فيبر الى ثبات السلوك التنظيمي والقدرة على التنبوء به ، فأن ميرتون كشف عن ان هذا الثبات يشير الى الجمود وعدم المرونة وما يرتبط بذلك من تحول الوسائل الى غايات .

وتسجل هنا حقيقة هامة هي أن التزام العضو بالقواعد واستدماجها والتوحد معها يجعله في وضع يتعامل مع القواعد وكأنها أهداف في حد ذاتها وليست أساليب يراد منها تحقيق الأهداف ، بمعنى اخر تصبح الجوانب الإدارية او الآلية الرسمية للوظيفة البيروقراطية أكثر اهمية من جوانب أخرى مثل تقديم أفضل خدمة للعميل . ومن ثم ، فان التقيد بالإجراءات الإدارية والمبالغة بها يجعل النسق وفعاليته في خطر ، ويزداد الامر خطورة اذا ما أصبحت هذه الجوانب معوقة وظيفيا ، وأصبح كذلك الموظف مدافعا عن نفسه من خلال التنفيذ الحرفي للقواعد الرسمية الجامدة والتقيد بها .

ويبدو كلما أوغلنا في تفاصيل ما قدمه ميرتون ، تتضح لنا جملة من الحقائق الجديدة ، لعل اخطرها اكتشافه للجوانب غير الرشيدة للسلوك التنظيمي ، اذ ان العناصر البنائية في التنظيم  التي أشار اليها فيبر كالضبط الدقيق الذي تمارسه القواعد واللوائح قد تكون لها نتائج وظيفية مثل القدرة على التنبؤ ، في الوقت نفسه تنطوي ايضا على نتائج غير وظيفية مثل الجمود وذلك في ضوء مدى تحقيق التنظيم للأهداف التي يسعى اليها . ولكن ميرتون هنا لم ينف تماما صدق النموذج المثالي الذي قدمه فيبر ، لكنه بين لنا جانب اخر هو النتائج التي تتخذ اتجاها معاكسا لأهداف الفعل وأسسه .هذا وقد قدم ميرتون نسقا تصوريا ، اوضح فيه ان النظام الذي يتطلبه السلوك المقنن في التنظيم يشجع على استبدال الاهداف ، وان البيروقراطيين يكشفون عن اتجاهات أقرب الى الطقوسية تجعل من العسير مواجهة المشكلات والتكيف معها ، مما يخلق هوة بين الأعضاء والجمهور ، كما لوحظ من خلال هذا النسق انه يستند أساسا الى ثلاث نقاط جوهرية هي :

                                                   نسق ميرتون التصوري للتنظيم

                             جمود السلوك                                                     صعوبة التكيف

                                              الصراع بين أعضاء التنظيم

          ويوضح الإطار النظري أعلاه ، ان النقاط الثلاث من جمود السلوك في التنظيم ، وصعوبة التكيف مع مهام الوظيفة ، والصراع الذي قد ينشأ بين أعضاء التنظيم ، هي نقاط تفرض بطبيعتها درجة معينة من الضبط والموازنة . إن الإطار الذي قدمه ميرتون يحتوي على فوائد مختبرة ميدانيا في دراسة التنظيم ، ذلك أنه كشف عن ان النتائج الفعلية للسلوك تختلف اختلافا شديدا عن النتائج المقصودة . فاذا ما كان ثمة سلوك ضار في تنظيم معين قد يكون ذو وظيفة حيوية في تنظيم آخر ، والعكس كذلك ، اذا كان ثمة سلوك مفيد في تنظيم ما قد يكون معوقا وظيفيا في تنظيم آخر .

  1. فليب سلزنيك وفكرة ديناميات التنظيم

يعد سلزنيك واحدا من المتأثرين بالاتجاه البنائي الوظيفي ، وقد أضاف فكرة تبدو جديدة الى حد كبير في دراسة التنظيمات ، وفكرته الأساسية تتجسد في مقولة تفويض السلطة وما يترتب عليها من نتائج غير متوقعة ، وقد تحرك سلزنيك من قضية أساسية مفادها : ان التنظيم يواجه مطلب الضبط الذي تمارسه أعلى المستويات الرئاسية ، وهذا يتطلب إلحاحا تفويض للسلطة ، الذي من شأنه زيادة فرصة التدريب على الوظائف المتخصصة واكتساب الخبرات في ميدان محدد ، ليعطي من ثم قدرة فنية وإدارية لمواجهة المشكلات المتولدة . ويؤدي تفويض السلطة أيضا الى تعدد وزيادة الوحدات والأقسام الفرعية في التنظيم ، مما يتمخض عن تنوع في المهام والمصالح لهذه الأقسام .

وحتى يؤدي التنظيم وظائفه على أتم وجه ، يتعين على الأقسام إبرام التعهد والالتزام حيال تحقيق الأهداف التنظيمية ، ورغم ما يسهم به هذا السياق من تحقيق للوظائف ، الا انه يتيح الفرصة لظهور حالات من الصراع بين الأقسام الفرعية في التنظيم ، وفي ضوء ذلك لابد للتنظيم ان يبادر سريعا باتخاذ القرارات للحيلولة دون اختلال للتوازن بين الأقسام الفرعية ، وكلما حدث شرخ بين أهداف التنظيم والواقع الفعلي المنحاز ، يتطلب ان يكون هناك تفويض للسلطة من جديد .

وقد انتقل سلزنيك الى مناقشة الميكانزمات او الآليات التي تؤثر على قرارات التنظيم . فراح يوضح ان سعي التنظيم لتحقيق الضبط الداخلي لا يؤثر فقط على محتوى هذه القرارات ، ولكنه يسهم في ظهور إيديولوجيات خاصة بالأقسام الفرعية تسعى من خلالها الى تحقيق الفعالية التنظيمية بخلق تجانس وانسجام بين هذه الإيديولوجيات الخاصة والإيديولوجية العامة التي يسير التنظيم وفقا لها ، واذا ما حصل التجانس بين هذه الإيديولوجيات الخاصة فانها تكتسب بالنتيجة طابعا شرعيا ، بفضل تفويض السلطة لهذه الأقسام ، ويزداد من ثم استيعاب أعضاء التنظيم للأهداف الفرعية . وهكذا فأن سلزنيك قدم أخطر اسهام في التنظيم من خلال دراسته للنتائج المترتبة على تفويض السلطة ، اذ بين أن هناك نتائج وظيفية وأخرى غير وظيفية لهذا التفويض ، وان هذه النتائج ترتبط أساسا بمشكلة تحقيق أهداف التنظيم .

وبعد هذا يتضح أن ثمة مشكلة أساسية يتعين على التنظيم مواجهتها الا وهي تفويض الانساق الفرعية مزيدا من السلطة ، اذ أن تعقد النشاطات التنظيمية تجعل من مسألة توزيع السلطات وتفويضها لمستويات وسيطة أمرا محتما ، لكن ذلك ربما ينشأ من خلاله تناقضا في الاهداف أي أهداف التنظيم ، وأهداف الاقسام الفرعية ، ومن ثم ، لابد من ضبط مركزي هنا لمتابعة وتقييد السلطات الفرعية . وقد أضاف سلزنيك مفاهيما نظرية ، كتلك التي تتعلق بـ ” حاجات الانساق ” بوصف هذا المفهوم أداة تصورية ، ثم قام بحصر تلك الحاجات بقوله : هناك حاجة الى استمرار السياسة القائمة والقيادة الموجودة ، والحاجة الى وجود نظرة متجانسة ، والحاجة الى قبول ما هو قائم والرضا بما هو موجود ، واخيرا الحاجة الى مشاركة أعضاء التنظيم ومعاونتهم . وعندما حاول سلزنيك دراسة اشباع التنظيم لهذه الحاجات ، كشف عن أن أجزاءه ووحداته الفرعية تقاوم وتعارض كل الامور التي لا تخدم أغراضها واهدافها الخاصة . فأطلق على هذا الموقف اسم ” المقاومة ” ذاهبا الى ان الافراد يقاومون ويعارضون لانهم يسلكون بوصفهم كلا مكون من أشخاص لا بوصفهم يشغلون أوضاعا تنظيمية محدودة النطاق .

وفي معرض نقده لاراء فيبر ، فقد ذهب الى ان دعوى قدسية القواعد ليست أساسا كافيا لتوافر الشرعية ، لان التنظيم لم يحقق بعد الطابع الشرعي الذي يستند اليه ، لذلك لابد له ـ أي للتنظيم ـ من منح نشاطاته طابعا شرعيا أمام أعضائه وأمام بيئته المعادية . ثم اضاف سلزنيك بعدا اخر يدخل في نطاق التنظيم الوظيفي ، يتعلق باستجابته للمشكلات التي يواجهها والتهديدات التي يتعرض لها والحاجات التي يتحتم عليه اشباعها في ضوء الطرق والاساليب الثقافية المقررة التي يسير عليها ، وقد خلص من ذلك الى نتيجة مفادها : أن التنظيم قد يلجأ الى رسم استراتيجيات ناجحة مؤقتة مثل اللجوء الى اشراك الجماعات التي تشكل تهديدا للتنظيم في ادارته ، ولكنه كشف عن ان هذه الاستراتيجية قد تخلق بطبيعتها مشكلات اخرى تتعلق بالجانب الشرعي للتنظيم .

هذا وقد قام سلزنيك بتطبيق تلك المفاهيم الوظيفية على دراسته لمنظمة ” التنس فالي ” ، فأوضح أن المنظمة كانت تحاول بجهد الدفاع عن سياستها واعمالها ، حتى تتمكن من تحقيق حاجاتها المتمثلة في الاستقرار والدوام وتحقيق الاهداف . وكان لابد على المنظمة حينئذ ان تتكيف مع ظروف البيئة التي تمارس فيها نشاطاتها بمواجهة التهديدات الصادرة عنها ، وبالمقابل كان على البيئة ان تواجه مطالب المنظمة ، ولقد حقق هذا التكيف توازنا مؤقتا كانت له بطبيعة الحال نتائج غير مقصودة ، سواء كانت نتائج وظيفية أو غير وظيفية .

                                        منظمة التنس فالي

 

                                                   تحقيق الأهداف

 

                                            مواجهة البيئة لمطالب المنظمة

                                                                   

                                               التكيف مع ظروف البيئة

                                                               

                                                        توازن

                             نتائج وظيفية                            نتائج غير وظيفية

مخطط توضيحي لتبيان وضع المنظمة في حال تحقيق حاجاتها ( الرسمه من تصرف الباحث )

وبناءً على هذا المخطط يرتب سلزنيك نتيجة هامة سياقها : أن الافعال الشعورية الواعية الصادرة عن الناس لا تواجه ولا تشبع بالضرورة حاجات التنظيمات ، بل أحيانا ان اشباع حاجات التنظيم تتم عبر النتائج غير المتوقعة المترتبة على أفعالهم . وهنا فان البدائل الوظيفية تظهر الى حيز الوجود فيما اذا لم تواجه او تشبع الحاجات بالأساليب الثقافية المقررة ، وهنا ايضا يوضح سلزنيك ان الاعتماد على الميكانزمات اللا شخصية يمكن للتنظيم من اداء وظائفه أكثر من اعتماده على الدافعية التي يجب ان تتوافر لدى اعضاء التنظيم . لكن هذا لا يعني انه اغفل دافعية الاعضاء في اشباع حاجات التنظيم ، بل قد عالجها في سياق دراسته الشاملة للمشكلات التنظيمية ، اذ بين ان هذه الدافعية تعكس غالبا حاجات التنظيم ، وهكذا يبين سلزنيك مستويين لتفسير السلوك في التنظيم : الاول : يفسر السلوك في ضوء دافعية الافراد ، اما الثاني : فيفسره بإرجاع هذه الدافعية الى حاجات الافراد .

  1. ألفن جولدنر ووظيفة القواعد البيروقراطية

عنى جولدنر بتوضيح النتائج المترتبة على استخدام القواعد البيروقراطية كوسيلة لضبط التنظيم ، فضلا عن اهتمامه بتوضيح كيف أن وسائل الضبط التي تفرض لكي تحقق التوازن بين الانساق الفرعية في التنظيم يمكن أن تؤدي في نفس الوقت الى احداث اضطراب في توازن النسق الكبير . يبدأ جولدنر بطرح قضية أساسية فحواها : ان استعانة التنظيم بالقواعد الموضوعية المنظمة لإجراءات العمل تعد جزءا من استجابة التنظيم أصلا لمطلب الضبط الذي تفرضه المستويات الرئاسية العليا ، ومن ثم ن يترتب على هذه الاستعانة صعوبة ادراك علاقات القوة في التنظيم ، مما ينعكس بطبيعة الحال على مدى شرعية الوظائف الاشرافية فيضعفها ويزيدها غموضا ، وهي حالة تفسر بعد ذلك ظهور التوترات والخلافات التي تنشأ في التنظيم . ومن هنا تحديدا قدم جولدنر قضية أخرى مؤداها : أن اتخاذ القرارات في التنظيم يحدث بالضرورة نتائج متوقعة ، وبقاء التنظيم يصبح أكثر رسوخا وثباتا اذا ما كانت هنالك قواعد موضوعية عامة تحكمه ، اذ تمثل أسسا يقيم عليها اعضاء التنظيم توقعاتهم ، وتحدد مسؤوليات الوظائف الكبرى في التنظيم ، وتتيح لهم فرصة تحديد الحد الادنى للسلوك المقبول ، مما يترتب أيضا قضية ثالثة : هي أن القواعد العامة الموضوعية تفرض على الرؤوساء نظرة معينة الى معدل أداء العمل ، على أساسها يحددون الاداء الامثل ، ثم يربطها بالقضية الاولى قائلا : أن النتائج المترتبة على استقرار القواعد ووضوحها يقابلها نوع من عدم التوازن الراجع الى انخفاض معدل الاداء ، مما يتطلب هذا اشرافا وثيقا ومراقبة مباشرة لجماعات العمل ، وعندئذ تصبح علاقات القوة التي كانت مخفية واضحة لدى جماعات العمل ويسهل لمسها ، ولكن هذا ايضا قد يرفع من مستوى التوتر في التنظيم ، مما يهدد التوازن الذي حققته القواعد الموضوعية المستقرة .

ويبدو واضحا نزعة جولدنر نحو ابراز وظيفة القواعد في التنظيم البيروقراطي ، فقد بين ان وضوح القواعد له نتائج وظيفية وخرى غير وظيفية ، فمن ناحية وظيفيته تتمثل في صعوبة ادراك علاقات القوة بين الرؤوساء والمرؤوسين ، وان منح هذه العلاقات طابعا قانونيا شرعيا يقلل من التوترات والخلافات الشخصية ويشجع على التعاون ، اما النتائج غير الوظيفية ، فان رغم تقديم القواعد التنظيمية الوصف الدقيق للسلوك غير المقبول في التنظيم ، فان ذلك ربما يتيح فرصة التعرف على الحد الادنى للسلوك المقبول ، مما يجعل أداء  العاملين مرتبط دائما بإنجاز الحد الادنى للأداء ، ومن ثم ، فهذا الامر يضر بإنتاجية التنظيم ضررا بالغا ، مما يدعوا الى ممارسة ضبط واشراف عاليين ، وقد يخلق ـ كما اشرنا ـ توترات وصراعات داخل التنظيم .

                    وظيفية القواعد التنظيمية ( حسب تصور جولدنر)

 

 

 

                 نتائج وظيفية                                  نتائج غير وظيفية

      ملاحظة علاقات القوة                                      الحد الأدنى للسلوك

          شرعية إدامة العلاقات                              إشراف وضبط عالي المستوى

         استقرار التنظيم                                          صراع التنظيم

رسمه توضح الإطار النظري عند جولدنر حول وظيفة القواعد في التنظيم البيروقراطي ( الرسمه من تصرف الباحث)

 

        هذا وقد توصل جولدنر الى إطاره النظري أعلاه في ضوء الدراسة التي أجراها عن أنماط البيروقراطية في الصناعة ، ومن خلال بيانه لوظيفة القواعد البيروقراطية في التنظيم الصناعي ، راح يقدم تفرقة بين نوعين من القواعد البيروقراطية : الاول : يتمثل بالطابع الجزائي أو العقابي ، وهي قواعد تتدعم بذاتها وتمنح لنفسها صفة شرعية دون أن يكون هنالك أجماع واتفاق حول شرعيتها من قبل جميع الاطراف في التنظيم . اما النوع الثاني : فهي القواعد ذات الطابع التمثيلي ، والتي يتم الاتفاق عليها ، اذ انها تتأسس بطريقة ديموقراطية وتستند في شرعيتها الى تأييد جماعي من جانب الادارة والعمال معا . وبناءً على هذا التصنيف ، أوضح جولدنر ان التنظيم الذي يسود فيه النوع الثاني أي القواعد التمثيلية يمكنه أن يتجنب بسهولة الصراعات التي قد تنشأ داخل التنظيم ، وأضاف ان الانحراف عن هذه القواعد لا يرجع الى تعمد او اهمال الفرد وانما يرجع الى جهله بها مما يتطلب ذلك تعليم التنظيم لأفراده العاملين مهارات وتقنيات الادارة والعمل تجنبا لعواقب الجهل بهما ، ومن ثم ، فأن هذه القواعد لا تعد معوقات وظيفية ؛ لان القيم المستندة اليها تلقى رواجا وقبولا لدى العاملين ، ولأنها كذلك تأسست بفعل مشاركة الافراد في صياغتها ووضعها في سياقها الحالي .

       ولقد أوضح جولدنر أيضا النوع الاول من القواعد وهي القواعد الجزائية او العقابية ، مبينا أن هذا النوع من القواعد كان سائدا ايضا في المصنع الذي درسه ، بيد أن دراسته لهذه القواعد تمت في ضوء ثلاث تصورات مستقلة : الاول : ما يوصف بتصور الحلقة المفرغة التي تدور حول مشكلات الرئاسة والضبط ، والثاني : تصور هذه القواعد بوصفها تعبيرا عن انماط سلوكية لها وظائف كامنة ، والثالث : تصور هذه القواعد بوصفها استجابة رشيدة لحادثة عرضية في تاريخ التنظيم هي التعاقب . ويبين جولدنر أن التصور الاول وهو الحلقة المفرغة يتعلق أساسا بمشكلة الاشراف الوثيق ، اذ ان القواعد البيروقراطية الموضوعية تنمو وتتطور لانها تخفف من التوترات التي تخلقها التبعية ، ولكنها في الوقت نفسه تؤكد وتدعم التوترات الحادة التي سببتها وجود تلك القواعد . في حين ان التصور الثاني الذي يشير الى الوظيفة الكامنة وهي تقليل التوترات فقد عزاها جولدنر الى تعارض قيم الجماعات المختلفة واستحالة التوصل الى معايير مقبولة لدى جميع الافراد ، لكن مع ذلك فان هذين التصوريين (الاول والثاني) لم يغطيا كافة الجوانب التي اراد لها جولدنر ان تتكشف بشكل واضح ، من قبيل لماذا تتعارض قيم الجماعات المختلفة ، واستحالة التوصل الى معايير مقبولة ؟ لذلك راح يقدم ما يعرف بمسالة تعاقب قادة التنظيم ، ليشكل تصوره الثالث لوظيفة القواعد البيروقراطية ، ومن ثم ، فأن موضوعية القواعد البيروقراطية ما هي الا استجابة تنظيمية عامة لمشكلة تعاقب الرؤوساء .

.نظرية النسق المفتوح عند كاتز وكان

       يكشف تبني كاتز وكان فكرة النسق المفتوح ، عن تأثرهما الواضح بالاتجاه البنائي الوظيفي ، وقد أوضحا نظرية النسق في فهم الطريقة التي من خلالها تؤثر البناءات التنظيمية المختلفة على السلوك ، اذ بينا ان هدفنا هنا هو توسيع نطاق تفسير العمليات التنظيمية ، فأن ذلك يقتضي منا أن نهجر المفاهيم التقليدية السائدة في علم النفس الفردي ، وان نتبنى اتجاه النسق ، الذي شكل فيما بعد تطويرا لفهم خصائص التنظيمات التي تمثل أنساقا مفتوحة . وفي نفس السياق قام كل من (ترست ورايس ) بمعالجة التنظيمات بوصفها أنساقا مفتوحة تخضع لمؤثرات خارجية كالتكنولوجيا . وقد برر كاتز وكان استخدامهما لمفهوم النسق المفتوح ، بانه يساعد على كشف الطريقة التي من خلالها يحقق التنظيم الاستقرار والدوام من خلال ما يحصل عليه من البيئة من سلع وخدمات، بالمقابل فان هذا المدخل لا ينفي المؤثرات الداخلية الكامنة في التنظيم والتي تتمثل “بالدافعية الانسانية” (والذي سنتناوله لاحقا) ، والتي بدونها لا يستطيع أي نسق اجتماعي أن يؤدي وظيفته بطريقة فعالة ، وتأكيدا عما سبق ، قدم كاتز وكان تصنيفا لأربع فئات : (انتاجية ، تدعيمية ، تكيفية ، إدارية – سياسية ) .

      وقد ناقش كاتز وكان مشكلة التكامل والصعوبات التي تكتنفه في التنظيمات ، ولكي يقدما حلا لهذه المشكلة تبنيا مفهوم ” التوازن الدينامي ” ـ الذي سبق مناقشته ـ ومع ذلك فأنهما لم يتمكنا من فهم مجرى التغير الاجتماعي في التنظيم ، وتجيء قناعتهم هنا على اساس ان التنظيمات لديها خصائص ميتافيزيقية ، او كما اشار اليها من قبل بارسونز ان هناك ميل طبيعي لصيانة حدودها والحفاظ عليها من خلال “توازن متحرك” . علما ان هذا التوازن لا يمنع من حدوث تغير اجتماعي نتيجة لوجود عامل خارجي جديد يتعين على التنظيم أن يتكيف معه . ورغم اقرار كاتز وكان باثر العوامل الداخلية في احداث التغير في التنظيم ، الا انهما أعترفا في موضع اخر بان هذه القوى ليست العامل الاهم في التغير الاجتماعي .

6.نظرية النسق الاجتماعي الفني

        بدا واضحا ان تأثير التكنولوجيا عموما امر ملموس لا سيما في مجال التنظيمات ، وفي سنة 1959 قدم وليام فوت وايت اطارا نظريا حاول من خلاله الربط بين العلاقات الإنسانية والأبعاد التكنولوجية ، بتأثير من افكار جورج هومانز ، بعد ان استند اطار الاخير الى ابعاد لتحليل التنظيم هي : التفاعل ، والنشاطات ، والعواطف . وعندما استخدم وايت هذه العناصر كشف عن علاقاتها المتبادلة وتساندها ، ثم كشف بعد ذلك عن علاقاتها جميعا ببيئة التنظيم التي تشمل فيما تشمل التكنولوجيا .

     هذا وقد أعطى وايت التكنولوجيا اهتماما خاصا في دراسة التنظيم ، الى جانب استخدامه في تفسير التفاعل والعواطف السائدة فيه ، واصفا الى ان نظام خط التجميع ، يؤدي الى ظهور عواطف سلبية نحو الادارة والشركة عموما ، ثم كشف بعد ذلك مزايا نظام الانتاج المستند الى جماعات العمل ، وهي جماعات تشترك عموما في مواقف عمل واحدة وظروف اقتصادية متشابهة ، وتتخذ عادة مواقف موحدة في علاقاتها بالإدارة والنقابة . ويبدو ان التكنولوجيا عند وايت متغير اساسي يحدد طبيعة السلوك والدافعية ، وبهذا المعنى قد ابتعد وايت عن الموقف الاجتماعي في تحديد طبيعة السلوك داخل التنظيم .

     وفي نفس السياق ، قدم ليونارد سايلز محاولة أخرى لفهم علاقة التكنولوجيا بنمو جماعات العمل ، كشف فيها عن بطء تكيف جماعات العمل مع التغيرات البنائية التي تطرأ على التنظيم . لذلك فهو يؤكد ان التكنولوجيا السائدة في المصنع تشكل نمط جماعات العمل ، وان ما يطلق عليه العنصر الانساني هو نتاج للقرارات التكنولوجية ، ذلك النتاج الذي يمكن التنبؤ به اذا ما فحصنا ودرسنا هذه القرارات . وبغض النظر عن الهنات التي تكتنف افكار سايلز ، الا ان المنظور التكنولوجي يكشف عن أن التفاوت في المهارات المختلفة من صناعة لأخرى ، يمكن أن يؤثر على طبيعة سلوك جماعات العمل . وهكذا فان التفاعل بين جماعات العمل قد لا يؤدي الى التكامل والتوازن ، بل يؤدي في كثير من الاحيان الى الصراع وعدم الاستقرار داخل التنظيم .

    ولعل من أخطر المحاولات التي درست تأثير التكنولوجيا على التنظيم هي تلك التي قدمها روبرت بلونر سنة 1964 . اذ قدم بحثا شاملا للاغتراب الناشئ عن انماط التكنولوجيا المختلفة ، وانطلق بلونر من قضية اساسية هي : ان التكنولوجيا الحديثة تعد السبب الاساسي المحدث للاغتراب ، وبناءً على هذا ، افترض أنماطا من التكنولوجيا تسهم في وجود الاغتراب اذا ما قورنت بأنماط اخرى ، وحتى يدلل على ذلك ، أوضح ان العمل في الصناعات الحرفية يحقق مزيدا من الاشباع للعامل ، بينما لا يحقق العمل في نظام انتاج خط التجميع هذا الاشباع . ثم كشف عن نمط ثالث من التكنولوجيا يتوسطهما هو : تكنولوجيا العمليات ، قائلا : ان علاقة العامل بالتنظيم التكنولوجي لعمليات العمل وعلاقته بالتنظيم الاجتماعي للمصنع هما اللذان يحددان ما اذا كان هذا العامل قد خبر في عمله الاحساس بالمراقبة أكثر من الاحساس بالسيطرة . كما أوضح بلونر ان الانساق الفنية داخل التنظيم تخلق احساسا بالضعف وشعورا بالاغتراب الذاتي ، على انه لم يغفل التأثير الواضح للعوامل الاجتماعية في احداث الاغتراب ، مبينا اثر البيئة الصناعية في خلق نمط اجتماعي محدد .

      ويبدو واضحا بعد الاشارة الى المحاولات النظرية السابقة أي تلك التي قدمها (وايت ، سايلز ، بلونر ) يتضح جليا ومليا ايضا انها تشترك في نقطة جوهرية هامة : توضيح النتائج المترتبة على استخدام التنظيمات لأنماط معينة من التكنولوجيا ، لاسيما ما تعلق منها بالرضا المهني وسلوك جماعات العمل ، كما آمنت هذه المحاولات جميعها بوجود تساند بين الابعاد المكونة لبناء التنظيم ، الا انها منحت البعد التكنولوجي اهمية خاصة ، مما شجع ذلك على ظهور اتجاه نظري محدد وهو اتجاه النسق الاجتماعي الفني . ان هذا النسق الجديد يجعل دارسه وناقده ، يطرحان اسئلة محددة ، من قبيل كيف يضمن النسق استقراره لكي يحقق أهدافه ؟ وكيف ينظم النسق علاقته بالبيئة المحيطة به ؟ . وفي هذا الاطار يقدم اصحاب هذا الاتجاه اجابة تتلخص : في ان دراسة التنظيم يجب أن تأخذ في اعتبارها التساند بين الابعاد التالية ( التكنولوجيا ، والبيئة ، وعواطف المشاركين ، والشكل التنظيمي ) . وهكذا يبدو ان دعاة هذا النسق يتخذون من فكرة النسق نقطة بداية يحاولون بعدها الكشف عن دور هذه الابعاد المتساندة في تحقيق الاستقرار في التنظيم وانجاز أهدافه المقررة ، كما انه يهتم بطبيعة الحال بدراسة نوع معين من التنظيمات هو التنظيمات الاقتصادية .

       وبرغم كل ما اشار اليه المهتمين بهذا الاتجاه ، فان الحقيقة الواضحة التي تمثل لب اهتمام هؤلاء هي : فهم التنظيم ودراسته بوصفه نسقا فنيا فيه ترتبط التكنولوجيا بعواطف الافراد ارتباطا منظما ، ثم يرتبطان سويا بالبيئة ارتباطا وثيقا مباشرا . وبناءً على ما سبق ، فان التكنولوجيا والبناء الرسمي يحددان مبلغ الاشباع والرضا الانساني الذي يمكن ان يتحقق من خلال المشاركة ، الى جانب ان التكنولوجيا هي التي تشكل طبيعة المنتج الذي يقدمه التنظيم للعالم الخارجي . وبالمقابل فان البيئة تؤثر على كل من التكنولوجيا والبناء الرسمي من خلال المتطلبات التي تفرضها البيئة عليهما .

      ومن بين المحاولات النظرية في هذا الاطار ، تلك المحاولة التي قدمتها جوان ودوارد (J. Woodward ) من خلال اجرائها لدراستين على عدد من المصانع البريطانية ، الاولى في سنة 1958 والثانية سنة 1965 ، اذ اوضحت لنا عن امكانية وضع الانساق الانتاجية على متصل يعبر عن درجة التعقيد الفني . ففي احد طرفي المتصل توجد الوحدة الانتاجية البسيطة غير المعقدة ، وفي الطرف الاخر توجد عمليات انتاجية بالغة التعقيد . بينما يتوسط هذين الطرفين طرف ثالث يعبر عن عمليات الانتاج الكبير .

      واستنادا الى فكرة المتصل التنظيمي اعلاه ، درس ودوارد عددا من التنظيمات الصناعية ، وكشفت عن ان المصانع التي تتميز بأنظمة انتاجية متماثلة كانت تتميز أيضا بتنظيم متماثل . اذ ان مستويات السلطة في الادارة تزداد بزيادة التعقيد ، كما ان نسبة المديرين والمشرفين تزداد بزيادة الجهاز غير الاشرافي . كما كشفت بعد ذلك عن وجود تماثل بين المصانع التي تستخدم نظام الانتاج بالوحدة او العملية . ومن النتائج الهامة الاخرى ان التنظيمات المتفاوتة في تعقيدها الفني كانت تتميز ببناء غير بيروقراطي يناقض تماما الشكل البيروقراطي الجامد الذي يوجد غالبا في التنظيمات القائمة على الانتاج الكبير . واوضحت في نتيجة اخرى ، ان عدد القرارات المتعلقة بسياسة التنظيم في كل نسق فني ، فضلا عن طبيعة هذه القرارات يؤثران على الشكل التنظيمي الذي يمكن أن يحقق للتنظيم فعاليته . ومن خلال هذه النتائج ، يمكن تلخيص محاولة ودوارد بانها سعي للربط بين ثلاثة أبعاد تنظيمية هي : التكنولوجيا ، واتخاذ القرار ، والبناء التنظيمي .

x