الازمات البيئية ــ الحضرية

لاشك ، ان الانسان والبيئة عنصران اساسيان لديمومة وتنمية احدهما للاخر ، ولعل كفاح الانسان مع ضغوطات البيئة جعله يتحكم فيها كيف يشاء ، مستثمرا كل امكانياتها وثروتها الباطنية نحو افاق حدد من خلالها معالم التحضر وبشكل يدعوا الى الاعجاب بذلك . ولكن رغم هذا الانجاز البشري الهائل ، الا ان للانسان وما صنعته ادواته تبعات وازمات الحقت بالنظام الطبيعي المتوازن . فا افقدت العناصر الاساسية للبيئة بريقها الانسيابي ، وبدأت تنحرف عن مسارها هذا ممزوجة بمخلفات الانسان الملوثة .

ولعل تأشيرا واضحا ذاك هو ، نؤشره في البيئة الحضرية لمجتمعات العالم الثالث ، خير دليل على تفاقم ازمة البيئة وما نتج عنها من خدوش واضحة حولت المكان الحضري الة بيئة مشوهة على كافة مستوياتها وعلاقاتها المتداخلة ايكولوجيا واجتماعيا واقتصاديا وثقافيا . فمع القدرة المتوفرة للانسان على التحكم بالبيئة وادارتها بطرق سليمة ، الا انه اصبح فيما عاجزا عن التعاطي مع مشكلات البيئة ، وتتضح الاسباب اكثر اذا ما اقررنا بمسببات هذه المشكلات ، والتي يأتي في مقدمتها ، الظواهر الكامنة التي لم تكن في الحسبان من قبيل الزيادات المرعبة للسكان والهجرات المتتالية لاسباب شتى ، كلها اثقلت أنس التوازن البيئي ــ الانساني في المراكز الحضرية ، لتصبح من ثم ، البيئة حالة ممزقة ومشوهة لدرجة استنزاف قدراتها الكامنة فيها .

ان لهذا التحول في العلاقة ما بين (البيئة ــ الانسان) قدم جملة من التشوهات التي ظهرت بجلاء في مشاكل اجتماعية وسلوكية ، كانت حصيلة لهذا الخلل . فعندها اصبح الانسان وهو ينشد بريق المدينة ويسعى للعيش في جنباتها الهادئة ، ضاق ذرعا من عسف الحياة فيها ، ومنزعجا من اثار تلوثها سواء في مائها او هوائها او تربتها ، او تكدس سكانها واختناق شوارعها ، والاتربة المتصاعدة ونفاياتها النتنة . ولا ينسى ما للزحام من اثار وهو نوع من التلوث ، لانه يتسم بالصراع وانتهاز الفرص والتنافس والاحتكاك المستمر والتوتر العصبي ، وهذه صفات بارزة من صفات المدينة الحديثة (د. محجوب ، محمد عبده ، ص77).

انه مما لا شك فيه ، ان هنالك فقرا يؤشر بشكل كبير على ادارة البيئة وحمايتها من الاستنزاف الكوارثي (المفاجىء) والانساني ، واذا ما نظرنا الى جهد الانسان في هذا السياق ، فان ثمة فقر واضح وهو فقر (تنظيمي) في المستوى الاول يحال الى ضعف اداء الادارات المحلية ، التي لاتبدي اي جهد بمستوى الطموح لمساندة مجتمعاتها ذات الدخل المحدود ، ولعل تلك المشكلة مرتبطة بسياق اعم ، يتمثل بعدم التكافؤ عند طرح مشاريع تنموية استراتيجية ، لاتأخذ بالاعتبار تحسين البيئة اولا ، لان هذا من شأنه العمل على اجراء تكيف جديد ، يجبر السكان او الفقراء في البيئات المتهالكة عل التعاطي مع ظروف البيئة الجديدة .

ومن الملاحظ في المناطق الفقيرة والمتهالكة ، ان بعض العوامل تدفع سكانها الى التشبث فيها ، رغم ما في الامر من صعوبات كبيرة تتعلق بتدني المستوى البيئي (E. Hardoy,Jorge,P.163 ) واذا ما نظرنا في ظروف معينة يكون فيها ومن خلالها المجتمع هو الجانب الاوحد في التأثير ، فان للبيئة وحيويتها امرا لا يقل اهمية عن المجتمع في ايجاد فرص اقتصادية جديدة لاصحاب الدخل المحدود ، ومن ثم ، فان ايجاد البيئة الفاعلة من قبيل توافر البنى التحتية الاساسية ، مثل الطرق والخدمات العامة الاخرى ، فان بامكانه تأدية وظائف ظاهرة لظهور اقتصاد غير رسمي وفاعل في الوقت نفسه في حركة الاقتصاد العامة (Douglas,Michael,pp.171-200 ). وهكذا علينا ان نفهم بان تحسين البيئة في المجتمعات ، لاسيما تلك التي تعاني قصورا واضحا في دخلها ، تساهم بشكل ايجابي في تحسين الاقتصاد ، وكثيرا ما ينظر للفقراء في هذا السياق ، بانهم مساهمون حقيقيون وبصورة غير رسمية في الاقتصاد ، وبالنتيجة فان هذا القطاع الغير رسمي يساهم ويتداخل في تكوين متكامل مباشر مع الاقتصاد بعامة ، اذ ان هذا القطاع الغير رسمي يوفر العديد من المنتجات مثل: الخامات والمعدات والالات الصغيرة والخدمات مثل : الصيانة والنقل والتسويق للعديد من القطاعات المتعلقة بالانشطة الزراعية والصناعية ، ومع تداخل هذه العلاقات فانها تعمل على التعامل مع مشاكل المجتمع بصورة متكاملة تتفاعل مع الادارة البيئية والاقتصادية (د. الجوهري ،هناء،ص258) .

وهكذا ، يتضح ان احدى الازمات البيئية تكمن في جانبها التنظيمي ــ الاداري ، الذي يتبلور في هدر قيمة البيئة وهدر لامكانياتها الطبيعية . واذا ما انتقلنا الى بعد اخر ، وهو البعد المتعلق بتلوث البيئة الحضرية ، فان الامر هنا يعزى الى حركة التحضر المتسارع لاسيما في الاعوام الاخيرة ، التي عقبت مرحلة التغيير عام (2003) ، ولعل مؤشرات التحضر في العراق لها خصوصية معينة ، خاصة اذا ما نظرنا الى طبيعة الظروف المولدة لذلك ، كتلك التي تمثلت بالصراعات السياسية والطائفية ، مما اعاد تشكيل بيئة المكان الطبيعي ، او كما يسميه كاستللو بـ ” التمدين الطبيعي ” المتمثل بالبيئة والاقامة (كاستللو ،ص155) . ليعاد رسم المكان ايكولوجيا عبر عملية غزو وتتابع سكاني ، وهذا بطبيعته يشكل ضغطا على مساحات المكان بوصفها غير مخصصة للسكن الى جانب ان هذا الغزو الايكولوجي استنزف قدرات القاعدة الخدماتية والاقتصادية للمدينة ، ولكن الشيء الاخطر من ذلك ، هو تشويه شكل مورفولوجية المدينة ، وعملية التشويه تلك اخذت مسارات عدة :

المسار الاول : تلوث الهواء : ولاشك ان هذا الشكل من التلوث يعد من اكثر اشكال التلوث البيئي في عالم اليوم . ولعل خطورة هذه المشكلة تكمن اكثر ما تكمن في الكميات الكبيرة من الدخان وجسيمات الكربون غير المحترقة والغازات ، وازدات خطورة هذه الترسبات ، عندما اصبح النسق الايكولوجي البشري غير قادر على امتصاص هذه الملوثات ، نتيجة تزايد اتجاه البشرية نحو الاقامة والعيش في المراكز الحضرية . هذا وان مسألة تلوث الهواء في البيئة الحضرية انما تمتد لتشمل اشكال اخرى اكثر خطورة تتمثل في الجسيمات الدقيقة واكسيد الكبريت واكسيد النيتروجين والهيدروكربونات واول اكسيد الكربون والملوثات الاشعاعية والمواد المسببة للضباب الاسود (د.السيد ،السيد عبد العاطي،ص450). وتعد الجسيمات الدقيقة اخطر ملوثات الهواء ، وهي نتيجة لما يتم احتراقه من وقود بانواعه المختلفة وفي مجالات متنوعة سواء في المصانع او مصادر الدخان التي تكثر في المدن بصفة خاصة . ومن اكثر ملوثات الهواء انتشارا وارتباطا بحياة المدينة هو الكربون ، ويذكر في هذا الصدد ان المصانع باختلاف انواعها ، سواء كانت صناعات ثقيلة على اطراف المدن ، او صناعات خفيفة بداخلها هي احد الاسباب لتلوث الهواء الى جانب مداخن المساكن التي تنبعث في الجو ما يزيد عن مليون طن من الدخان سنويا ، وهكذا تكشف الرؤية الفاحصة لواقع البيئة في المدينة والملوثات فيها ان المشكلة في تفاقمها هي مشكلة حضرية ، وان اغلب ملوثات الهواء تنتج كما يتضح عن “عمليات احتراق ” وهي عملية تحدث بنطاق واسع في المدن والمراكز الحضرية الكبرى (المصدر نفسه،ص451) .            

إن المدينة ، مكان استهوى واستحق عن جدارة اهتمام الباحثين في التخصصات الأكاديمية ، ليس هذا فحسب ، بل أصبحت المدينة حديث الفلاسفة وكتاب الرواية والقصة ، فالمدينة بهذا الاهتمام تستهوينا ، لنلامس تجلياتها الايكولوجية والاجتماعية والثقافية ، وها نحن نحاول أن نصف ونحلل عمليتا التحضر والتحديث ، بوصفهما ظاهرتين متلازمتين لكل مدينة ، ومن ثم ، فأن اختلافا واضحا في الدينامية التي تحرك هذه العمليات ، وتقدم لنا صورا متنوعة من درجات التحضر ، وأساليب التحديث او الحضرية ، وفي العراق ، فأن هاتين العمليتين ، تقدمان لنا بعضا من المؤشرات ، التي قد نصفها بالمتناقضات ، مع ضروريات وشروط الواقع الحضري .

لامواربة عندنا ، إن الإشكالية متشعبة ، وهذا يعني أن مخرجاتها على المستوى الايكولوجي أو الاجتماعي عديدة . لقد وضعنا جملة أهداف نحاول أن نمسك بها ، وكان في مقدمتها ، أن نصف ونحلل ظاهرة التحضر والتحديث ، واضعين إشكاليات فرعية ، نعدها هنا بمثابة نتائج خلل التوازن بين التحضر من جهة ، والتحديث من جهة أخرى . فارتفاع معدل التحضر ، وعدم استيعاب الوسط الحضري لأعداد السكان المتزايدة ، اخرج لنا زخما من المشكلات ، لعل أبرزها خلل البنية المكانية للمدينة ، الى جانب التجلي الواضح للصراع السوسيو – ثقافي ، بين منظومات القيم الحضرية والريفية ، فضلا عن مؤشرات أخرى .

 

x