الفكر الاجتماعي الإسلامي

كان نزول القرآن على نبينا محمد e أهم حادث فى تاريخ البشرية. فلأول مرة ينزل على الأرض كتاب سماوي ذو حروف وكلمات إلهية لم يكتب حرفاً من حروفه بشر ولم يخط سطراً من سطوره إنسان. وأعلن الكتاب الإلهي إعلاناً لا محيص عنه أنه آخر وحي نزل من السماء وأنه قد أقفل الدائرة التي تساقطت منها الصحف والألواح السماوية الأخرى, وانطلق الكتاب ينظم حياة البشر ويضع شرائع مقننة للسلوك والعمل ولقد تضمن الكتاب السماوي نوعان من الحقائق: حقائق توفيقية لا مجال للعمل أن يرتاد فيها فهي تتصل بالعقيدة, وحقائق توفيقية للعقل أن ينتج فيها العلم والحضارة ولقد فتحت هذه الحقائق الأخيرة المجال واسعاً أمام مفكري الإسلام لكي يسهموا في بناء المعرفة الإنسانية إسهاماً فريداً, ليس مادة فحسب وإنما منهجاً أيضاً ذلك أن مفكري الإسلام قد نجحوا في وضع أصول المنهج العلمي الاستقرائي الذي انتقل كاملاً بعد ذلك إلى الحضارة الغربية ويتفق هذا المنهج نصاً وروحاً مع القرآن والسنة, وأود أن أشير في هذا الصد إلى أن الفكر الاجتماعي الإسلامي بحاجة إلى دراسة مستفيضة تكشف أبعاده المختلفة ومنزلته بين الاتجاهات الفكرية الأخرى (17).

وسوف نركز هنا على إسهام ابن خلدون بصورة أساسية باعتباره مؤسس علم الاجتماع مع ذكر نبذة مختصرة عن أبو نصر الفارابي.

1- أبو نصر الفارابي (872-950)

تعتبر “المدينة الفاضلة” أهم ما كتبه الفارابي من الناحية الاجتماعية, فقد ذهب فيها إلى أن بنى الإنسان في حاجة إلى الاجتماع للتعاون فيما بينهم, إذ يقول أن كل واحد من الناس مفطور على أنه محتاج في قوامه إلى أشياء كثيرة لا يمكن أن يقوم بها وحده بل يحتاج إلى قوة يقوم له كل واحد منهم بشئ مما يحتاج إليه.

ثم يقسم الفارابي المجتمعات الإنسانية إلى فئتين كبيرتين: مجتمعات كاملة, ومجتمعات غير كاملة. فأول وأكمل أشكال النوع الأول هو “اجتماع الجماعة كلها في المعمورة أو المجتمع العالمي, ثم المجتمع الأوسط الذي يشمل الأمة ثم المجتمع الأصغر ويشمل المدينة. ونلمح في هذا التصنيف بالطبع تأثر الفارابى بالفكرة الإسلامية القائلة بالعالمية أما المجتمعات غير الكاملة فهي على ثلاث أنواع كذلك هي: (المجتمع القروي الذي يشمل القرية, والمجتمع الذي يشمل سكان حي, وأخيرا المجتمع المنزلي الذى يشمل أفراد أسرة واحدة), ويرى الفارابي أن من الصعب تحقيق المجتمع العالمي وكذلك وجه عناية خاصة للمدينة لأن إصلاحها سيؤدي إلى صلاح الأمة, وأول شيء يؤدي إلى كمال المدينة هو التعاون التام بين أفرادها ثم وجود رئيس المدينة يدبر سئونها على الوجه الأكمل.

وتنقسم الأعمال في المدينة حسب الطبقات المختلفة بحيث يقوم بأنبل الأعمال وأهمها أقرب الطبقات للرئيس, وهذا الرئيس يجب أن تتحقق له بالفطرة صفات الرئاسة كما يتعين أن يكتسب نور المعرفة، وقد حدد الفارابي اثنتى عشرة خصلة يجب أن تتوفر في الرئيس, وأهم ما تضمنه تحليل الفارابي هو إشارته لضرورة بحث أصول النظم الاجتماعية ثم تقريره بشكل ضمني أن الظواهر الاجتماعية لا توجد هكذا كيفما اتفق وإنما تخضع لقوانين وقواعد (18).

عبد الرحمن بن محمد بن خلدون ( 1332-1406)

المؤسس الأول لعلم الاجتماع, ولد في تونس من أسرة يرجع أصلها إلى مدينة أشبيلية بالأندلس ودرس كافة العلوم السائدة في عصره كما شغل كثيراً من المناصب الحكومية وقام بكثير من الرحلات في الشرق والغرب وعمل في الحقل السياسي لدى كثير من أمراء الأندلس وبلاد المغرب ثم أقام بمصر من سنة 1382 حتى قبل وفاته سنة 1406, وتولى فيها كثير من الوظائف في التدريس والقضاء وأهم مؤلفات ابن خلدون مقدمته في التاريخ واسمها بالكامل كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر؛ ولقد عرض في هذه المقدمة أهم آرائه الاجتماعية ولنتناول هذه الآراء.

يقول ابن خلدون بصدد علم الاجتماع, أننا ننظر في الاجتماع البشري الذي هو العمران ونميز ما يلحقه من الأحوال لذاته وبمقتضى طبعه أو ما يكون عارضاً لا يعتد به وما يمكن أن يعرض له, ويقول أيضاً وكأن هذا علم مستقل بنفسه فإنه ذو موضوع وهو العمراني البشري والاجتماع الإنساني؛ وذو مسائل وهي بيان ما يلحقه من العوارض والأحوال لذاته, واحدة بعد الأخرى وهذا شأن كل علم من العلوم وضعياً كان أم عقلياً, ثم يقسم كتابه إلى ستة فصول تستوعب تقريباً كل فروع الاجتماع المعروفة عند الاجتماعيين المحدثين وهي على التوالي, فى العمران البشري وأصنافه, وفي العمران البدوي, والأمم الوحشية وفي الدول والخلافة والملك وفي العمران الحضري والبلدان والأمصار, وفي الصنائع والمعاش والكسب وفي العلوم واكتسابها وتعلمها وهي تقابل عند المحدثين علم الاجتماع العام والأنثروبولوجيا والاجتماع السياسي، والاجتماع الحضري, والاجتماع الصناعي, والاجتماع التربوي.

ويُعرف ابن خلدون التاريخ تعريفاً اجتماعياً فيقول عنه: “يهدف التاريخ إلى إفهامنا الحالة الاجتماعية للإنسان, أعنى الحضارة ويهدف كذلك إلى أن يعلمنا الظواهر التي ترتبط بهذه الحضارة وإلى معرفة الحياة البدائية وتهذيب الأخلاق وروح الأسرة والقبيلة” (19).

ونجد أن موضوع “العلم الجديد لابن خلدون هو العمران”؛ أي الحياة الاجتماعية للبشر في جميع ظواهرها, وفي الأدب تترجم كلمة العمران بكلمة “المدنية”, أو “الحضارة”، والمعنى التاريخي الاجتماعي المعاصر لاصطلاح “المدنية” الذي يعني المقومات الاجتماعية والسياسية والثقافية للمجتمع في طور محدد لا يطابق ذلك المحتوى الذي وضعه ابن خلدون للعمران, ولا يوافق مفهوم اصطلاح “الحضارة”, لأن العمران ليس نتيجة, ولكنه نفس العملية الخاصة بالنشاط الحيوى للمجتمع.

والترجمة الحرفية للاصطلاح هى “الحياة الاجتماعية “, وهي في رأينا أكثر مطابقة لمفهوم العمران عند ابن خلدون, ولكن مفهوم “الحياة الاجتماعية” نفسه متعدد المعاني إلى درجة كبيرة, وهو يأخذ معنى واحد فقط في متن النص الذي يحدد المضمون الأساسى للاصطلاح.

ويصل ابن خلدون إلى تحديد كلمة العمران في “المقدمة” بالشرح المباشر لمعنى الاصطلاح, فالعمران “هو التساكن والتنازل للأنس بالعشيرة, واقتضاء الحاجات, لما في طباعهم من التعاون على المعاش “.

وبهذه الصورة, فالحياة الاجتماعية عند ابن خلدون تعتبر – أولا وقبل كل شيء – عملاً جماعياً إنتاجياً للبشر, مشروطاً بالاحتياجات المادية, وجميع الظواهر الباقية لحياة المجتمع ” في الملك, والكسب والعلوم, والصنائع ” تدخل في مفهوم العمران, ولكنها لا تحدد فكرته(20) التي اجتمعت وتشابكت لكي تشكل اتجاهه الفكري وتبرر اهتمامه بعلم الاجتماع الإنساني, فمن الواضح أولاً : أنه لم يكن مفكراً متأملاً منعزلاً عن الواقع الاجتماعي السياسي، وإنما كان فكره يمثل انعكاساً لتجارب سياسية اجتماعية واسعة النطاق, ومن الواضح ثانياً : أنه كان رجل علم وعمل في الوقت ذاته, بل لا نبالغ في القول بأنه كان يوظف علمه وفقهه في خدمة العمل السياسي, ومن الواضح ثالثاً : أنه يعتد بخبرة الواقع, بمعايشة الحياة الاجتماعية للقبائل والعشائر والجماعات الاجتماعية والسياسية المختلفة, ويعتبر هذه ” الخبرة الواقعية ” مصدراً رئيسياً من مصادر المعرفة. ومن الواضح رابعاً : وأخيرا أن مفاهيم العمران البشري والسياسة التي ناقشها ابن خلدون كانت مفاهيم مشتقة من الإطار الأشمل للفكر الإسلامي, الذي اهتم به وانتمى إليه.

x