الفلسفة الكونفوشوسية 2

ومن أقواله: “إن أخلاق الرجل تكونها القصائد وتنميها المراسم” (أي آداب الحفلات والمجاملات) “وتعطرها الموسيقي”. وكان تعليمه كتعليم سقراط شفهياً لا يلجأ فيه إلى الكتابة ، ولهذا فإن أكثر ما نعرفه من أخباره قد وصل إلينا عن طريق أتباعه ومريديه ، وذلك مصدر لا يوثق به. وقد ترك إلى الفلاسفة مثلاً قل أن يعبئوا به- وهو ألا يهاجموا قط غيرهم من المفكرين ، وألا يضيعوا وقتهم في دحض حججهم. ولم يكن يعلم طريقة من طرائق المنطق الدقيق ، ولكنه كان يشحذ عقول تلاميذه بأن يعرض بأخطائهم في رفق ويطلب إليهم شدة اليقظة العقلية.
: ومن أقواله في هذا المعنى:
«اذا لم يكن من عادة الشخص أن يقول: ماذا أرى في هذا؟ فإني لا أستطيع أن أفعل له شيئاً. وإني لا أفتح باب الحق لمن لا يحرص على معرفته، ولا أعين من لا يعنى بالإفصاح عما يكنه في صدره. وإذا ما عرضت ركناً من موضوع ما على إنسان ، ولم يستطع مما عرضته عليه أن يعرف الثلاثة الأركان الباقية فإني لا أعيد عليه درسي»
.
ولم يكن يشك في أن صنفين اثنين من الناس هما وحدهما اللذان لا يستطيعان أن يفيدا من تعاليمه وهما أحكم الحكماء وأغبى الأغبياء ، وأن لا أحد يستطيع أن يدرس الفلسفة الإنسانية بأمانة وإخلاص دون أن تصلح دراستها من خلقه وعقله. “وليس من السهل أن نجد إنسانا واصل الدرس ثلاث سنين دون أن يصبح إنساناً صالحاً”. ولم يكن له في بادئ الأمر إلا عدد قليل من التلاميذ ، ولكن سرعان ما تواترت الإشاعات بأن وراء شفتي الثور والفم الواسع كالبحر قلباً رقيقاً وعقلاً يفيض بالعلم والحكمة ، فألتف الناس حوله حتى استطاع في آخر أيام حياته أن يفخر بأنه قد تخرج على يديه ثلاثة آلاف شاب غادروا منزله ليشغلوا مراكز خطيرة في العالم.
وكان بعض الطلبة- وقد بلغ عددهم في وقت من الأوقات سبعين طالباً- يعيشون معه كما يعيش الطلبة الهنود المبتدئون مع مدرسيهم (الجورو)؛ ونشأت بين المدرس وتلاميذه صلات ود وثيقة دفعت هؤلاء التلاميذ في بعض الأحيان إلى الاحتجاج على أستاذهم حين رأوه يعرّض نفسه للخطر أو اسمه للمهانة. وكان رغم شدته عليهم يحب بعضهم أكثر مما يحب ابنه ، ولما مات هُوِي بكى عليه حتى قرحت دموعه مآقيه. وسأله دوق جاي يوماً من الأيام أي تلاميذه أحبهم إلى المعلم فأجابه:
«لقد كان أحبهم إلى العلم ين هُوِى ، لقد كان يحب أن يتعلم. ولم أسمع بعد عن إنسان يحب أن يتعلم (كما كان يحب هُوِي). لم يقدم لي هُوِي معونة ، ولم أقل قط شيئاً لم يبتهج له.»
وكان إذا غضب كظم غيظه ؛ وإذا أخطأ مرة لم يعد إلى خطئه. ومما يؤسف له أنه كان قصير الأجل فمات وليس له في هذا الوقت (نظير). وكان الطلبة الكسالى يتحاشون لقاءه فإذا لقيهم قسا عليهم ، وذلك لأنه لم يكن يتورع عن أن يعلم الكسول بضربة من عكازته ويطرده من حضرته دون أن تأخذه به رأفة. ومن أقواله: “ما أشقى الرجل الذي يملأ بطنه بالطعام طوال اليوم ، دون أن يجهد عقله في شيء.
لا يتواضع في شبابه التواضع الخليق بالأحداث ، ولا يفعل في رجولته شيئاً خليقاً بأن يأخذه عنه غيره ، ثم يعيش إلى أرذل العمر- إن هذا الإنسان وباء”. وما من شك في أنه كان يبدو غريب المنظر وهو واقف في حجرته أو في الطريق العام ، يعلم مريديه التاريخ والشعر والآداب العامة والفلسفة ، ولا يقل استعداده وهو في الطريق عن استعداده وهو في حجرته. وتمثله الصور التي رسمها له المصورون الصينيون في آخر سني حياته رجلاً ذا رأس أصلع لا تكاد تنمو عليه شعرة ، قد تجعد وتعقد لكثرة ما مر به من التجارب ، ووجه ينم عن الجد والرهبة ولا يشعر قط بما يصدر عن الرجل في بعض الأحيان من فكاهة ، وما ينطوي عليه قلبه من رقة ، وإحساس بالجمال مرهف يُذكّر المرء بأنه أمام إنسان من الآدميين رغم ما يتصف به من كمال لا يكاد يطاق ، وقد وصفه في أيام كهولته الأولى مدرس له كان ممن يعلمونه الموسيقى فقال: “لقد تبينت في جونج- تي كثيراً من دلائل الحكمة ، فهو أجبه واسع العين ، لا يكاد يفترق في هذين الوصفين عن هوانج- دي.
وهو طويل الذراعين ذو ظهر شبيه بظهر السلحفاة ، ويبلغ طول قامته تسع أقدام (صينية) وست بوصات. وإذا تكلم أثنى على الملوك الأقدمين ، وهو يسلك سبيل التواضع والمجاملة ؛ وما من موضوع إلا سمع به ، قوي الذاكرة لا ينسى ما يسمع ؛ ذو علم بالأشياء لا يكاد ينفد. ألسنا نجد فيه حكيماً ناشئاً؟”. وتعزو إليه الأقاصيص “تسعاً وأربعين صفة عجيبة من صفات الجسم يمتاز بها عن غيره من الناس”. ولما فرّقت بعض الحوادث بينه وبين مريديه في أثناء تجواله ، عرفوا مكانه على الفور من قصة قصها عليهم أحد المسافرين ، قال إنه التقى برجل بشع الخلقة “ذي منظر كئيب شبيه بمنظر الكلب الضال”. ولما أعاد هذا القول على مسامع كنفوشيوس ضحك منه كثيراً ولم يزد على أن قال: “عظيم!عظيم!”. وكان كنفوشيوس معلماً من الطراز القديم يعتقد أن التنائي عن تلاميذه وعدم الاختلاط بهم ضروريان لنجاح التعليم. وكان شديد المراعاة للمراسم ، وكانت قواعد الآداب والمجاملة طعامه وشرابه ، وكان يبذل ما في وسعه للحد من قوة الغرائز والشهوات وكبح جماحها بعقيدته المتزمتة الصارمة. ويلوح أنه كان يزكي نفسه في بعض الأحيان. ويروى عنه أنه قال عن نفسه يوماً من الأيام مقالة فيها بعض التواضع- “قد يوجد في كفر من عشر أسر رجل في مثل نبلي وإخلاصي ، ولكنه لن يكون مولعاً بالعلم مثلي”.
وقال مرة أخرى:
«قد أكون في الأدب مساوياً لغيري من الناس ، ولكن خلق الرجل الأعلى الذي لا يختلف قوله عن فعله هو ما لم أصل إليه بعد “لو وجد من الأمراء من يوليني عملاً لقمت في اثني عشر شهراً بأعمال جليلة، ولبلغت الحكومة درجة الكمال في ثلاث سنين.»
على أننا نستطيع أن نقول بوجه عام إنه كان متواضعا في عظمته. ويؤكد لنا تلاميذه أن “المعلم كان مبرأ من أربعة عيوب ؛ كان لا يجادل وفي عقله حكم سابق مقرر ، ولا يتحكم في الناس ويفرض عليهم عقائده ، ولم يكن عنيداً ولا أنانياً”. وكان يصف نفسه بأنه “ناقل غير منشىء”. وكان يدعي أن كل ما يفعله هو أن ينقل إلى الناس ما تعلمه من الإمبراطورين العظيمين يو و شون. وكان شديد الرغبة في حسن السمعة والمناصب الرفيعة ، ولكنه لم يكن يقبل أن يتراضى على شيء مشين ليحصل عليهما أو يستبقيهما. وكم من مرة رفض منصباً رفيعاً عرضه عليه رجال بدا له أن حكومتهم ظالمة.
وكان مما نصح به تلاميذه أن من واجب الإنسان أن يقول:
«لست أبالي مطلقاً إذا لم أشغل منصباً كبيراً، وإنما الذي أعنى به أن أجعل نفسي خليقاً بذلك المنصب الكبير. وليس يهمني قط أن الناس لا يعرفونني؛ ولكنني أعمل على أن أكون خليقاً بأن يعرفني الناس.»
وكان من بين تلاميذه أبناء هانج هِي ، أحد وزراء دوق لو، وقد وصل كنفوشيوس عن طريقهم إلى بلاط ملوك جو في لو- يانج ، ولكنه ظل بعيداً بعض البعد عن موظفي البلاط ، وآثر على الاقتراب منهم زيارة الحكيم لو- دزه وهو على فراش الموت كما سبق القول. فلما عاد إلى لو وجدها مضطربة ممزقة الأوصال بما قام فيها من نزاع وشقاق ، فانتقل منها إلى ولاية تشي المجاورة لها ومعه طائفة من تلاميذه مخترقين في طريقهم إليها مسالك جبلية وعرة مهجورة. ولشد ما كانت دهشتهم حين أبصروا في هذه القفار عجوزا تبكي بجوار أحد القبور. فأرسل إليها كنفوشيوس تسه- لو يسألها عن سبب بكائها وحزنها ، فأجابته قائلة: “إن والد زوجي قد فتك به نمر في هذا المكان ، ثم ثنى النمر بزوجي ، وهاهو ذا ولدي قد لاقى هذا المصير نفسه”. ولما سألها كنفوشيوس عن سبب إصرارها على الإقامة في هذا المكان الخطر ، أجابته قائلة: “ليس في هذا المكان حكومة ظالمة”. فالتفت كنفوشيوس إلى طلابه وقال لهم: “أي أبنائي اذكروا قولها هذا ؛ إن الحكومة الظالمة أشد وحشية من النمر”. ومثل كنفوشيوس بين يدي دوق تشي وسرّ الدوق من جوابه حين سأله عن ماهية الحكومة الصالحة: “توجد الحكومة الصالحة حيث يكون الأمير أميراً ، والوزير وزيراً ، والأب أباً والابن ابناً” ، وعرض عليه الدوق نظير تأييده إياه خراج مدينة لن -شيو ، ولكن كنفوشيوس رفض الهبة وأجابه بأنه لم يفعل شيئاً يستحق عليه هذا الجزاء. وأراد الدوق أن يحتفظ به في بلاطه وأن يجعله مستشاراً له ، ولكن جان ينج كبير وزرائه أقنعه بالعدول عن رأيه وقال له: “إن هؤلاء العلماء رجال غير عمليين لا يستطاع تقليدهم ؛ وهم متغطرسون مغرورون بآرائهم ، لا يقنعون بما يعطى لهم من مراكز متواضعة. وللسيد كونج هذا من الخصائص ما يبلغ الألف عداً. ولو أردنا أن نلم بكل ما يعرفه عن مراسم الصعود والنزول لتطلب منا ذلك أجيالاً طوالاً”. ولم يثمر هذا اللقاء ثمرة ما ، وعاد كنفوشيوس على أثره إلى لو وظل يعلم تلاميذه فيها خمسة عشر عاماً أخرى قبل أن يستدعى ليتولى منصباً عاماً في الدولة. وواتته الفرصة حين عُيّن في أواخر القرن السادس قبل الميلاد كبير القضاة في مدينة جونج- دو.
وتقول الرواية الصينية إن المدينة في أيامه قد اجتاحتها موجة جارفة من الشرف والأمانة ، فكان إذا سقط شيء في الطريق بقي حيث هو أو أعيد إلى صاحبه. ولما رقاه الدوق دنج دوق لو إلى منصب نائب وزير الأشغال العامة شرع في مسح أرض الدولة وأدخل إصلاحات جمة في الشئون الزراعية ، ويقال أنه لما رقي بعدئذ وزير للجرائم كان مجرد وجوده في هذا المنصب كافياً لقطع دابر الجريمة. وفي ذلك تقول السجلات الصينية: “لقد استحت الخيانة واستحى الفساد أن يطلاّ برأسيهما واختفيا ، وأصبح الوفاء والإخلاص شيمة الرجال ، كما أصبح العفاف ودماثة الخلق شيمة النساء. وجاء الأجانب زرافات من الولايات الأخرى ، وأصبح كنفوشيوس معبود الشعب”. إن في هذا الإطراء من المبالغة ما يجعله موضع الشك ؛ وسواء كان خليقاً به أو لم يكن فإنه كان أرقى من أن يعمر طويلاً. وما من شك في أن المجرمين قد أخذوا يأتمرون بالمعلم الكبير ويدبرون المكائد للإيقاع به. ويقول المؤرخ الصيني: إن الولايات القريبة من “لو” دب فيها دبيب الحسد وخشيت على نفسها من قوة “لو” الناهضة. ودبّر وزير ماكر من وزراء تشي مكيدة ليفرق بها بين دوق “لو” وكنفوشيوس، فأشار على دوق تشي بأن يبعث إلى تنج بسرب من حسان “الفتيات المغنيات” وبمائة وعشرين جواداً تفوق الفتيات جمالاً.
وأسرت البنات والخيل قلب الدوق فغفل عن نصيحة كنفوشيوس (وكان قد علمه أن المبدأ الأول من مبادئ الحكم الصالح هو القدوة الصالحة) ، فأعرض عن وزرائه وأهمل شئون الدولة إهمالاً معيباً. وقال دزه لو لكنفوشيوس: “أيها المعلم لقد آن لك  أن ترحل”. واستقال كنفوشيوس من منصبه وهو كاره ، وغادر لو ، وبدأ عهد تجوال وتشرد دام ثلاثة عشر عاماً. وقال فيما بعد “إنه لم ير قط إنساناً يحب الفضيلة بقدر ما يحب الجمال”. والحق أن من أغلاط الطبيعة التي لا تغتفر لها أن الفضيلة والجمال كثيراً ما يأتيان منفصلين لا مجتمعين. وأصبح المعلم وعدد قليل من مريديه المخلصين مغضوباً عليهم في وطنهم ، فأخذوا يتنقلون من إقليم إلى إقليم ، يلقون في بعضها مجاملة وترحاباً ، ويتعرضون في بعضها الآخر لضروب من الحرمان والأذى. وهاجمهم الرعاع مرتين ، وكادوا في يوم من الأيام يموتون جوعاً ، وبرّح بهم ألم الجوع حتى شرع تْزَه- لو نفسه يتذمر ويقول إن حالهم لا تليق “بالإنسان الراقي”. وعرض دوق وى على كنفوشيوس أن يوليه رياسة حكومته، ولكن كنفوشيوس رفض هذا العرض ، لأنه لم تعجبه مبادئ الدوق. وبينما كانت هذه الفئة الصغيرة في يوم من الأيام تجوس خلال تشي إذ التقت بشيخين عافت نفسهما مفاسد ذلك العهد ، فاعتزلا الشئون العامة كما اعتزلها لو دزه ، وآثرا عليها  الحياة الزراعية البعيدة عن جلبة الحياة العامة. وعرف أحد الشيخين كنفوشيوس ، ولام تْزَه- لو ، على سيره في ركابه ، وقال له: “إن الاضطراب يجتاح البلاد اجتياح السيل الجارف ، ومن ذا الذي يستطيع أن يبدل لكم هذه الحال؟ أليس خيراً لكم أن تتبعوا أولئك الذين يعتزلون العالم كله ، بدل أن تتبعوا ذلك الذي يخرج من ولاية إلى ولاية؟”. وفكر كنفوشيوس في هذا اللوم طويلاً ولكنه لم يفقد رجاءه في أن تتيح له ولاية من الولايات فرصة يتزعم فيها حركة الإصلاح والسلم.
ولما بلغ كنفوشيوس التاسعة والستين من عمره جلس دوق جيه آخر الأمر على عرش لو وأرسل ثلاثة من موظفيه إلى الفيلسوف يحملون إليه ما يليق من الهدايا بمقامه العظيم ، ويدعونه أن يعود إلى موطنه. وقضى كنفوشيوس الأعوام الخمسة الباقية من حياته يعيش معيشة بسيطة معززاً مكرماً ، وكثيرا ما كان يتردد عليه زعماء لو يستنصحونه ، ولكنه أحسن كل الإحسان بأن قضى معظم وقته في عزلة أدبية منصرفاً إلى أنسب الأعمال وأحبها إليه وهو نشر روائع الكتب الصينية وكتابة تاريخ الصينيين. ولما سأل دوق شي تْزَه- لو عن أستاذه ولم يجبه هذا عن سؤاله ، وبلغ ذلك الخبر مسامع كنفوشيوس ، قال له: ” لِمَ لم تجبه بأنه ليس إلا رجلاً ينسيه حرصه على طلب العلم الطعام والشراب ، وتنسيه لذة (طلبه) أحزانه، وبأنه لا يدرك أن الشيخوخة مقبلة عليه” وكان يسلي نفسه في وحدته بالشعر والفلسفة ، ويسره أن غرائزه تتفق وقتئذ مع عقله ، ومن أقواله في ذلك الوقت: “لقد كنت في الخامسة عشرة من عمري مكباً على العلم ، وفي الثلاثين وقفت ثابتاً لا أتزعزع ، وفي سن الأربعين زالت عني شكوكي ، وفي الخمسين من عمري عرفت أوامر السماء، وفي الستين كانت أذني عضواً طيعاً لتلك الحقيقة، وفي السبعين كان في وسعي أن أطيع ما يهواه قلبي دون أن يؤدي بي ذلك إلى تنكب طريق الصواب والعدل. ومات كنفوشيوس في الثانية والسبعين من عمره ، وسمعه بعضهم يوماً من الأيام يغني في الصباح الباكر تلك الأغنية الحزينة:

فلنحاول أن نكون منصفين في حكمنا على هذه العقيدة. ولنقرّ بأنها ستكون نظرتنا إلى الحياة حين يجاوز الواحد منا الخمسين من عمره ، ومبلغ علمنا أنها قد تكون أكثر انطباقاً على مقتضيات العقل والحكمة من شعر شبابنا. وإذا كنا نحن ضالين وشباناً فإنها هي الفلسفة التي يجب أن نقرن بها فلسفتنا نحن ، لكي ينشأ مما لدينا من أنصاف الحقائق شئ يمكن فهمه وإدراكه. ولا يظن القارئ أنه سيجد في لا أدرية كنفوشيوس نظاماً فلسفياً- أي بناء منسقاً من علوم المنطق وما وراء الطبيعة والأخلاق والسياسة تسري فيه كله فكرة واحدة شاملة (فتحيله أشبه بقصور نبوخذ نصر (بختنصّر) التي نقش اسمه على كل حجر من حجارتها). لقد كان كنفوشيوس يعلّم أتباعه فن الاستدلال ، ولكنه لم يكن يعلمهم إياه بطريق القواعد أو القياس  المنطقي ، بل بتسليط عقله القوي تسليطاً دائماً على آراء تلاميذه ؛ ولهذا فإنهم كانوا إذا غادروا مدرسته لا يعرفون شيئاً عن المنطق ولكن كان في وسعهم أن يفكروا تفكيراً واضحاً دقيقاً. وكان أول الدروس ، التي يلقيها عليهم المعلم ، الوضوح والأمانة في التفكير والتعبير ، وفي ذلك يقول: “كل ما يقصد من الكلام أن يكون مفهوما”- وهو درس لا تذكره الفلسفة في جميع الأحوال. “فإذا عرفت شيئاً فتمسك بأنك تعرفه ؛ وإذا لم تعرفه ؛ فأق

x