المصادر الاجتماعية للقانون

        تختلف المصادر الرسمية للقانون باختلاف المجتمعات في الزمان والمكان وعلى الرغم من أن بعض الكتابات توحي بأن القانون في المدنيات القديمة التي وجدت في غابر العصور كان ينظر إليه على أنه ظاهرة مستديمة وغير متغيرة، وهو اتجاه متأثر ولا شك بفكرة الفلاسفة والمفكرين عن القانون الطبيعي، فإن تقدم المجتمعات على مر الزمان قد غير هذا الاعتقاد تماماً، وكان لابد أن يطرأ على الأفكار القانونية من تعديلات ما تعدد معها مصادر القانون تلبية لحاجات المجتمعات المتغيرة والمتجددة باستمرار.

1- العرف:

يعتبر العرف أول مصدر رسمي ظهر من الناحية التاريخية، ويقصد به اعتياد الناس على مسلك معين في ناحية من نواحى حياتهم، وتواتر العمل به إلى أن ينشأ الاعتقاد لدى الجماعة بأنه ملزم تستتبع مخالفته توقيع جزاء مادي، ومن هنا يتم الامتثال له بطريقة آلية في الأغلب.

        ويرى الكثيرون أن هذا المصدر هو الطريق الطبيعي الذي توحى به الفطرة للتعبير عما ترتضيه الجماعة من قواعد لإقامة النظام فيها حيث يكتسب حرمته من عراقته في القدم ومن المسحة الدينية التي تضفي عليه.

        ويميل جانب كبير من الكتابات الاجتماعية والأنثربولوجية إلى مقابلة العرف بالقانون فعلى الرغم من الاعتراف العام بأن العرف كان ولا يزال مصدراً رسمياً للقانون، إلا أنه حالما تقوم هذه المقابلة تتم على الفور التفرقة بين المجتمعات التي يوجد لديها قانون وتلك التي يخضع فيها السلوك لمعايير تقليدية طابعها القبول وليس الجزاء أو القهر.

        والواقع أن التفرقة بين أنماط المجتمعات التي يخضع فيها السلوك للعرف وتلك التي يخضع فيها للقانون تفرقة تنطوي على تبسيط زائد للأمور إن لم تنطوي على التعسف وقد كان أحد الإسهامات الأساسية التي قدمها “مالينوفسكي” توضيحه لمدى تأثير العرف وبخاصة فى المجتمعات البدائية.

        ويرى “هوبل” أن هناك ثلاثة عناصر في القانون تميزه عن قواعد العرف وهذه العناصر هي القوة أو القسر والسلطة الرسمية والمعيارية أو القياسية، والواقع أنه بالنسبة إلى المجتمع البدائي يعتبر العرف الوجه التقنيني للتقاليد والعادات الجمعية والآداب العامة بل ويرتبط كلياً بإجراءات دينية وطقوس سرية ومبادئ خلقية مما يجعل منه وسيلة فذة للضبط الاجتماعي، وهذا هو الوضع بالنسبة إلى عدد كبير من المجتمعات التقليدية وبخاصة تلك المجتمعات القبلية التي تفتقر إلى وجود جهاز تنفيذي أو تشريعي يتولى إصدار القوانين الملزمة، وإنما توجد لديها ثروة هائلة من القواعد والأحكام التي تعتبر حصاد خبرات السنين الطويلة وتبلورت فيما أصبح يعرف باسم القانون العرفي.

        وقد ذهب “أوستن” أيضاً إلى شيء قريب من هذا فقرر أن العرف والقواعد العرفية لا تصبح قانوناً إلا بعد أن يصادق عليها من قبل المحاكم أو المؤسسات القضائية.

2- التشريع:

ولكن على الرغم من أن العرف يعتبر أسبق المصادر القانونية ظهوراً في التاريخ فالذي لا شك فيه هو أنه يقصر عن الوفاء بحاجة المجتمع إلى القواعد القانونية كلما تقدم في الزمن وخضع لمزيد من التغيرات الاجتماعية التي تتشعب معها أوجه النشاطات، وتتعقد بالتالي العلاقات بين الأفراد، فهو مصدر بطيء لا تنفذ منه القاعدة القانونية وتتحدد في شكل واضح إلا بعد فترة طويلة تكفي لتكوين عقيدة الإلزام.

        وقد عمدت الجماعة إلى طريق آخر للتعبير عما ترتضيه من قواعد وهذا الطريق هو التشريع الذي يعتبر مصدر القوانين في المجتمعات المتمدينة على العكس من قوانين الجماعات البسيطة التي لا تنتج من التشريع بمعناه التكنيكي الضيق، ومن الواضح أنه كلما تعقدت الحياة الاجتماعية زادت أهمية التشريع لأنه أداة تمكن بسهولتها وسرعة إنجازها من الوفاء بحاجة المجتمع وتطويره بقواعد تتميز بالوضوح والانضباط، مما يساعد على سهولة التطبيق وبالتالي استقرار العلاقات والمعاملات. وإن كان من المهم أن ننظر إلى هذه المسألة من زاوية أخرى، أي من حيث إن المصادر القديمة للقانون ما زالت تحول دون التمادي في وضع التشريعات الكثيرة إذ يقف العرف والعادة في وجه التغيرات المتطرفة أو الفجائية أو حتى تلك التغيرات التي لا تريد السلطة إحداثها.

        وقد أشار “ديسى” Dicey إلى هذا في مؤلفه الكلاسيكى المعنون “القانون والرأي العام في إنجلترا خلال القرن التاسع عشر” والذي درس فيه تأثير الآراء العامة المتضمنة في المذاهب السياسية والاجتماعية على التشريع، وحيث عارض الرأى القائل بأن نمو القانون وتطويره يعتمد على الرأي ويرى بدلاً من ذلك أن الناس لا تشرع وفقاً لرأيهم عما هو قانون “طيب” وإنما في ضوء مصالحهم والشيء نفسه بالنسبة إلى الطبقات والدول واستطراداً مع ذلك فقد رأى ديس أن التشريع يعبر من ثم عن المنافع والمصالح الذاتية للأفراد والطبقات التي بيدها مقاليد الأمور.

3- الدين:

ولقد عرفت المجتمعات بصرف النظر عن درجة تحضرها الدين بمعنى ما يوحى به الله للناس أيا كانت الفكرة عن الدين أو تصور الأفراد والجماعات له، فهو بوجه عام كل ما يستمد من قوة غير منظورة تتصف بالقداسة، وبقدر سيطرة الدين وقوة شعور الجماعات بوجوب احترامه يختلف حظه باعتباره مصدراً رسمياً للقانون، فإذا ارتضى المجتمع أن يسير وفقاً للقواعد الدينية وجعل طاعتها واجبة على وجه ملزم ذلك الإلزام الذي يكشف عن حرص المجتمع عليه ما يوقعه من جزاءات على مخالفة هذه القواعد، كان الدين مصدراً رسمياً للقانون.

        ومع ذلك فالملاحظ أن أهمية الدين كمصدر للقانون تعتبر بوجه عام في المجتمعات القديمة والبسيطة أكبر منها في المجتمعات الحديثة المعقدة، وإن كان عدم اعتبار الدين مصدراً رسمياً لا يلغى في الوقت نفسه ابتعاد القانون نهائياً عن الدين، فقد توضع القاعدة عن طريق التشريع الذي يعتبر عندئذ مصدرها الرسمي , لكن المشرع يستقى مادة القاعدة أي مضمونها من الدين, من ثم يكون مصدراً ماديا لها .

4- الفقه والشروح العلمية :

وما زال كثير من العلماء يختلفون حول مكانة الفقه كمصدر رسمي للقانون, يقصد بالفقه هنا آراء العلماء الذين تخصصوا في البحث في القوانين التي يقولون بها فى كتبهم وفي أبحاثهم وفتاويهم القانونية, وقد كان في بعض المجتمعات القديمة مصدراً رسمياً للقانون على الأقل في حدود معينه, ولكنه لا يعتبر كذلك في القوانين الحديثة. ففي القانون الروماني على سبيل المثال كان لبعض الفقهاء حق إعطاء الفتاوى الملزمة للقضاء. وذلك في القضايا التي تعطى الفتاوى بشأنها, ثم في مرحلة لاحقة أصبحت آراء خمسة من كبار الفقهاء آراء ملزمة يتعين على القضاء الأخذ بها فيما يعرض عليهم من نزاع.

أما بالنسبة إلى العصر الحديث فلم يعد الفقه مصدراً رسمياً, ولكن اقتصر دوره على أن يكون مصدراً ً يستأنس به القضاه في التعرف على حقيقة القواعد التي يطبقونها مستمدة من مصادرها الرسمية، ومع ذلك يلعب الفقه دوراً بالغ الأهمية من الناحية الواقعية. فعلى الرغم  من أن آراء الفقهاء ليس لها من الناحية الرسمية قوة ملزمة, إلا أنها تسهم بالنصيب الأكبر في تكوين مادة القاعدة القانونية, من حيث أن مادة القانون تتكون من الأفكار التي يهتدى إليها عقل الإنسان على ضوء الحقائق الواقعية للمجتمع. والفقهاء هم الذين يعنون بالبحث في القانون، ومن هنا دورهم في الكشف عن مضمون هذه القواعد الموجودة, والحكم على هذه القواعد بما إذا  كانت ملائمة للظروف الاجتماعية أو لأنها لم تعد كذلك, وبالتالي يقترحون قواعد أخرى جديدة .

5- القضاء :

وفي السنوات الأخيرة بدأ الاهتمام يتزايد بالقضاء والقرارات القضائية كمصدر إضافي للقانون نتيجة للأحوال المتغيرة التي تنجم عن البيئة النامية والمتطورة باستمرار. يقصد بالقضاء أولا مجموع الهيئات التي تتولى الفصل في المنازعات أي المحاكم أو السلطة القضائية كما يقصد به ثانيا الأحكام التي تصدرها المحاكم وأخيرا فيقصد به أيضا استقرار محاكم الدولة في مجموعها على اتجاه معين فيما تقضي به فى مسألة ما. وقد قام القضاء بمعنى السلطة القضائية في القانون الروماني بدور كبير في خلق القواعد القانونية فكان بذلك مصدراً رسمياً. وعلى الرغم من أن بعض الفقهاء قد أصبحوا ينظرون إلى الفقه على أنه مصدر استئناس يهتدى به القضاة والمشتغلون بالقانون في التعرف على حقيقة القواعد القانونية فإنه يمكن القول بوجه عام أن القوانين عموما ليست نتيجة التشريع بقدر كونها, من الوجهة الواقعية على الأقل, ثمرة اعتراف القضاة أو مؤسسات العدالة, إذن لا وجود لقواعد قانونية في أي مجتمع لا تحظى باعتراف مؤسساته القضائية وهو اتجاه أدى ببعض العلماء من أمثال “أوستن” الذي يرى أن القواعد العرفية ذاتها لا تصبح قانوناً إلا بعد مصادقة المحاكم والمؤسسات القضائية عليها كما أسلفنا القول.

x