النظرية البنائية الوظيفية

ظهرت النظرية البنيوية الوظيفية في اعقاب ظهور كل من البنيوية الاجتماعية على ايدي كل من كلاودس ليفي ستراوس وكولدن وايزر عندما نشر العالمان كتابي ” ابنية القرابة ” و ” الطوطمية ” على التوالي . والوظيفية على ايدي كل من ماكس فيبر واميل دوركايم ووليم كراهام سمنر في مؤلفاتهم المنشورة ” الدين والاقتصاد ” وتقسيم العمل في المجتمع ” و ” طرق الشعوب ” . علماً بأن ظهورها كان كرد فعل للتراجع والضعف والإخفاق الذي منيت به كل من البنيوية والوظيفية لكون كل منهما احادية الجانب . ذلك ان البنيوية تفسر المجتمع والظاهرة الاجتماعية وفقاً للأجزاء والمكونات والعوامل المفردة التي يتكون منها البناء الاجتماعي بعيداً عن وظائف هذه الاجزاء والنتائج المتمخضة عن وجودها . في حين ان الوظيفة تفسر الظاهرة الاجتماعية تفسيراً يأخذ بعين الاعتبار نتائج وجودها وفعالياتها بعيداً عن بنائها والاجزاء التي تتكون منها .

لهذا ظهرت النظرية البنيوية الوظيفية لتنظر الى الظاهرة او الحادثة الاجتماعية على انها وليدة الاجزاء او الكيانات البنيوية التي تظهر في وسطها وان لظهورها وظيفة اجتماعية لها صلة مباشرة او غير مباشرة بوظائف الظواهر الاخرى المشتقة من الاجزاء الاخرى للبناء الاجتماعي . علماً بأن النظرية البنيوية الوظيفية قد ظهرت في القرن التاسع عشر على يد العالم البريطاني هربرت سبنسر ثم ذهبت الى امريكا فطورها هناك كل من تالكوت بارسونز و روبرت ميرتون و هانز كيرث و رايت ميلز .

ان هذا الفصل يحتوي على ثلاثة مباحث رئيسية هي مايلي :

أ- نشوء النظرية البنيوية الوظيفية .

ب- الاضافات التي قدمها ابرز رواد النظرية البنيوية الوظيفية .

ج- المبادئ الاساسية التي ترتكز عليها البنيوية الوظيفية .

 

نشوء النظرية البنيوية الوظيفية :

يرتبط نشوء النظرية البنيوية الوظيفية بالفكر الوضعي اذ كانت النزعة الوضعية منذ بداية القرن التاسع عشر مؤيدة للعلم ومعارضة للميتافيزيقيا التقليدية ، اذ ان تأييدها للعلم والمنطق التجريبي كان يستند على فكرة الوصول الى القوانين التي تخضع لها الوقائع والظواهر الاجتماعية . لذا اكدوا على فكرة العلم الطبيعي خاصة علم الاحياء وأهميته في دراسة المجتمع ، فعلم الاحياء يدرس تراكيب ووظائف الكائن الحيواني او النباتي الحي . ومثل هذه الدراسة يمكن الاستفادة منها في تحليل المجتمع البشري الذي هو الآخر يتكون من اجزاء تسمى بالأنظمة التي لها وظائف يكمل بعضها الاخر . ان البنيويين الوظيفيين يعتقدون ان بناء اي كائن عضوي عبارة عن ترتيب او تنظيم ثابت نسبياً من العلاقات القائمة بين الخلايا المختلفة للكائن .

اما عن ماهية الدعاوى الاساسية لظهور الاتجاه البنيوي الوظيفي فهي مختلفة بين دعاوى علمية ودعاوى ايديولوجية وسياسية . لقد ظهر الاتجاه البنيوي الوظيفي استجابة لحاجة عدد من الباحثين في علمي الاجتماع والانثروبولوجيا نحو تطوير ادوات وأساليب نظرية ومنهجية تتوائم ودراسة الصور المختلفة للترابطات الاجتماعية والتفاعل بين السمات والجماعات والنظم داخل النسق الاجتماعي الكبير الذي يكتنف الانساق الفرعية . اما المنحى الآخر للفكر البنيوي الوظيفي فقد كان استجابة لدعاوى ايديولوجية وسياسية اذا ارادت ان تناهض علم الاجتماع الماركسي وتضرب الطوق والعزلة الفكرية والسياسية على السياق التاريخي المادي الذي نشأ وترعرع فيه .

لقد ظهرت البنائية الوظيفية في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين . وكانت بمثابة رد فعل للمعوقات والانتقادات والمشكلات التي وجهت لكل من النظرية البنائية والنظرية الوظيفية . ان النظرية البنائية الوظيفية جاءت لتكمل الاعمال التي بدأت بها كل من البنائية والوظيفية . ذلك ان النظرية البنائية الوظيفية تعترف بأن لكل مجتمع او مؤسسة او منظمة بناء والبناء يتحلل الى اجزاء وعناصر تكوينية ، ولكل جزء او عنصر وظيفة تساعد على ديمومة المجتمع او المؤسسة او المنظمة . لذا فالفكر البنائي الوظيفي يعترف ببناء الكيانات او الوحدات الاجتماعية ويعترف في الوقت ذاته بالوظائف التي تؤديها الاجزاء والعناصر الاولية للبناء او المؤسسة ووظائف المؤسسة الواحدة لبقية المؤسسات الاخرى التي يتكون منها المجتمع . علماً بأن النظرية البنيوية الوظيفية تعتمد على النظرية البيولوجية التي جاء بها جارلس دارون في كتابه ” أصل الانواع ” اذ ان دارون تناول دراسة الاجزاء التي يتكون منها الكائن العضوي والترابط بينها ودرس وظائفها للكائن العضوي ككل .

وقد استفاد علماء الاجتماع البنائيون الوظيفيون من الافكار البيولوجية والعضوية التي جاء بها دارون عند دراسته للكائن الحيواني من حيث البناء والوظيفة والتطور . ذلك ان للمجتمع بناء ووظيفة ، وان هناك تكاملا بين الجانب البنيوي للمجتمع والجانب الوظيفي اذ ان البناء يكمل الوظيفة والوظيفة تكمل البناء . فكيف يمكن التحدث عن البناء دون ذكر وظائفه ، وكيف يمكن اتحدث عن وظائف الجماعات والكيانات دون تناول بنائها . وهنا يقول تالكوت بارسونز في كتابه ” النسق الاجتماعي ” لا بناء بدون وظائف اجتماعية ولا وظائف بدون بناء اجتماعي . وهذا يدل على وجود علاقة متفاعلة بين البناء والوظيفة ، وان هناك درجة عالية من التكامل بينهما ، اذ لا نستطيع الفصل مطلقاً بين البناء والوظيفة . وبناء على هذه المسلمة نستطيع توجيه الانتقاد المر الى النظرية البنيوية والى النظرية الوظيفية . فالبنيوية ترى بأن ما موجود هو البناء والأجزاء التركيبية للبناء ، بينما ترى الوظيفية بأن ما هو موجود هو الوظائف التي تفيد المجتمع وليس البناء .

ان كلاماً احادياً كهذا دفع بالبنيويين الوظيفيين الى الربط العلمي الغائي بين الوظيفة والبناء اذ لا بناء بدون وظيفة ولا وظيفة بدون بناء . اما علماء الاجتماع الذين درسوا البناء والوظيفة جنباً الى جنب دون التحيز الى ركن دون الركن الاخر فهم هربرت سبنسر وتالكوت بارسونز وروبرت ميرتون وهانز كيرث ورايت ميلز وجون ريكس وكينكزلي ديفيز وغيرهم .

من المؤكد ان الاتجاه البنيوي الوظيفي قد ظهر في علم البيولوجي وفي علم النفس وفي علم الانثروبولوجي الثقافي قبل ان يظهر في علم الاجتماع . فعلم البيولوجي يعتقد بأن الكائن العضوي الحي يتكون من اجزاء او تراكيب بنيوية ، ولهذه الاجزاء او التراكيب وظائفها ، والوظائف هذه تساعد على بقاء وديمومة الكائن العضوي الحي . واستعمل الاتجاه البنيوي الوظيفي في علم النفس في بداية القرن العشرين عندما ظهرت ادوات تحليلية مختلفة تحاول ان تصف بدقة الاجزاء او العناصر التي تتكون منها العمليات العقلية كالإرادة والانفعال والدافع والإحساس والإدراك …الخ . غير ان الاتجاه البنائي الوظيفي لم يعين الوحدة الاساسية التي تربط العناصر الفرعية . بيد انه في العشرينات والثلاثينيات من القرن الماضي ظهرت نظرية الجشطالت التي تعتقد بأن اي عنصر من عناصر العملية العقلية يجب ان يدرس في ضوء الكل الذي تتكون منه الاجزاء او العناصر على الرغم من وجود الاختلافات بين الكل والأجزاء .

واستثمر علم الاجتماع فكرة البناء والوظيفة في دراسته للمجتمعات والجماعات والمؤسسات والمنظمات . فالمؤسسة او النسق الفرعي له بناء يتحلل الى عناصر بنيوية يطلق عليها الادوار ، وكل دور وظيفة ، وهذه الوظائف مكملة بعضها لبعض . ذلك ان التكامل يكون بين البنى وبين الوظائف كما تعتقد النظرية البنائية الوظيفية .

x