تأثير العقيدة الدينية على تكوين المجتمع ونشاطات أفراده

تميزت بلاد الرافدين بانها كانت تشهد على الدوام ايقاعاً كونياً قاسياً مضطرباً وعنيفاً فنهرا دجلة والفرات غالباً ما يفيضان على غير انتظام فيحطمان السدود التي اقامها الانسانمر لدرء اخطارهما ويغرقان مساكنه ومزارعه وعلاوة على ذلك فان هذه البلاد تشهد على الدوام هبوب رياح لاهبة تخنق المرء بغبارها . كما تشهد البلاد بين آونة وأخرى هطول امطارغزيرة متواصلة تحوّل الصلب من الارض الى بحر من الطين ، تعرقل حركة الانسان وتعوق انتقاله .

ان عدم انتظام ظواهر الطبيعة واضطرابها قد انعكس تأثيره على ( وعي ) الانسان الذي كان يعيش في بلاد الرافدين قديماً ، فقد بدت ( الطبيعة ) بالنسبة اليه وكأنها تبطش به ، وتتحكم بمشيئته وتتدخل في تحديد مصيره ، الأمر الذي جعل الانسان ( الرافديني ) يشعر بالتفاهة والضعف وبالتالي الخوف ازاء قوى طبيعية هائلة تتلاعب به وبمصيره .

وكان رد الفعل الذي ابداه الانسان الذي عاش في بلاد الرافدين والتي باتت تعرف اليوم بأسم (العراق) ازاء ذلك هو اللجوء الى التدين .

والواقع ان ايغال العراقي القديم في الاعتقاد الديني يمكن النظر اليه على انه نتيجة طبيعية جداً ، وذلك لأن ( الدين )  كان يطرح نفسه في حدود المستوى الذي كان عليه التطور المادي ، في وادي الرافين قديماً كضرورة لازمة . اذ ان الدين كان قد مثل انذاك انعكاسا خياليا داخل الوعي الاجتماعي لعلاقات افراد البشر مع الطبيعة . ففي البدايات الاولى لتاريخ المجتمعات البشرية كانت قوى الطبيعة هي المتحكمة بأفراد البشر ومصائرهم وبقدر ما يتعلق الامر بالمجتمع الرافديني ، فإن عقيدته الدينية في اطورها الأولى المبكرة جداً قد قامت على عبادة قوى الطبيعة التي ما لبث ان عمد فيما بعد الى ( تجسيدها ) على هيئة ( آلهة ) .

فلقد بدا للأنسان العراقي القديم ان كل ما يتخلل الطبيعة من ظواهر ومظاهر ، انما تسيطر عليها وتتحكم فيها ( قوى خفية هائلة ) ، وبما ان الظواهر الطبيعية لها انعكاساتها وتأثيراتها السلبية والايجابية على حياة الافراد فانه من الطبيعي ان يخشاها الانسان ويلتمس رضاها . فمصيره واستمرار وجوده مرتهن بإرادتها ، فان استمرار وجود الانسان البدائي ، الذي كان يعيش على جمع الثمار والصيد متوقف على مدى سخاء الطبيعة وقواها أو شحها . والمزارع البدائي كان يرى هو الآخر ان ثمار عمله خاضعة للعوامل المناخية مثل المطر والجفاف والحرارة والبرودة .

عندما عمد الانسان البدائي في وقت لاحق الى ( تجسيد ) تلك ( القوى الطبيعية الخفية الهائلة ) على هيئة ( آلهة ) فإنه تصورها على شكل البشر ، بل انه اعتقد انها شأنها شأن البشر تتشكل من جنسين : ذكر وانثى . ومن ثم فقد كان منطقياً ان يغزو كل مظاهر الخصب والتكاثر في الطبيعة بما في ذلك تكاثر الانسان والحيوان والنبات الى قوى الخصب الالهية المتمثلة بالآلهة – الام ( عشتار ) وبإله الخصب ( تموز ) .

ولقد ظل العراقي القديم شاعرأ بهذه العلاقة الوثيقة بالطبيعة ، حتى بعد ان قامت المدن بشكلها العامر لتحتضن حشوداً كبيرة من افراد البشر ، اذ ان سكان المدن لم تنقطع صلتهم بالأرض بحكم كونهم يعتاشون من الحقول التي تحيط بهم . وبالتالي فقد ظل العراقي القديم يجهد من اجل ضمان استمرار هذا الترابط بينه وبين الطبيعة ، وكانت الاحتفالات الدينية الأداة المؤدية الى ذلك .

فقد كانت حياة افراد المجتمع في بلاد الرافدين قديما منظمة حسب تقويم يلائم بين تطور المجتمع خلال السنة ، وحركة الطبيعة عبر تتابع فصولها ، وكانت تكرس بضعة ايام الشهر للاحتفال بأحداث الطبيعة عبر حركتها هذه . غير ان الحدث الاعظم في كل مدينة هو ذلك الاحتفال الذي يبقى نحو اثني عشر يوماً ، كان الاحتفال بـ( رأس السنة الجديدة ) في وقت تكون ( حيوية ) الطبيعة فيه قد هبطت الى مستواها الأدنى وحيث يتوقف كل شيء عن الخروج من فترة الركود هذه الى الحيوية الجديدة .

ان أفراد المجتمع الرافديني يستحضرون في اذهانهم في هذا الوقت ما ترسخ في اعماقهم عن طغيان الطبيعة وجبروت ظواهرها واضطرابها فيتوجهون الى السماء ملتمسين الرحمة من خلال ( سخاء ) الطبيعة معهم وتجاوب ظواهرها مع آمالهم وتطلعاتهم بدلاً من ( شح ) الطبيعة وعنف ظواهرها .

ان المجتمع المرتبك الى الحد الاقصى من حياته لا يستطيع ان يبقى سلبياً بأنتظار الصراع بين قوى ( الموت ) و ( الحياة ) في الطبيعة ، فكان يسهم بحساسية عاطفية عنيفة من خلال الطقوس والمراسيم في صراع الطبيعة هذا لأنه على نتيجة هذا الصراع تتوقف حياته ومصيره .

وكما تختفي قوى الموت واسبابه مع انتهاء فصل الشتاء وتنتصر قوى الحياة والانبعاث والتجدد مع بدء فصل الربيع ، فإن الانسان العراقي القديم كان يودع أخطاءه وإخفاقاته ويأسه متطلعاً الى آمال ونجاحات جديدة يتطلع الى ان تغمره مع حلول السنة الجديدة . لقد جعل الانسان العراقي القديم من طقوس ( رأس السنة ) مناسبة للاحتفال بتجديد الحياة بكل تفاصيلها ومظاهرها وكأن كل سنة تشهد عملية خلق جديد للكون .

والواقع ان الطقوس لم تكن تقتصر على ذلك فقط ، وانما كانت تشمل ايضا طقوساً رمزية تجري على مستوى السلطة التي تدير المجتماع . اذ كانت هذه السلطة ممثلة في شخص الملك تخضع هي الأخرى لعملية ( تجديد ) كل سنة ، ففي بداية فصل الشتاء كان يُقام احتفال ديني خاص في المعبد يحضره رجال الدين وعامة الناس أو من ينوب عنهم لكي يسمعوا اعترافات الملك بعدما يتم تجريده من سلطاته من قبل رئيس الكهنة ن فتجري عملية مراجعة للأعمال التي قام بها الملك لمعرفة اخطائه وقراراته الخاطئة وافعاله السيئة واعترافه بها امام رئيس الكهنة وامام رعيته ثم بعد ذل ( بعد ان يتطهر الملك من آثامه وخطاياه ) يعيد رئيس الكهنة الى الملك سلطاته مجدداً ، وتبعاً لذلك يمكن القول ان عملية ( التجديد ) التي كان يشهدها المجتمع الرافديني القديم كانت تحدث على مستويين هما : تجديد على مستوى السلطة السياسية العليا ، وتجديد على مستوى الحياة اليومية لمجتمع انساني حسب تبدلات مناخية واحداث كونية .

x