تطورات نظرية في فهم البناء الاجتماعي / الحضري

شهدت النظرية الايكولوجية المبكرة عنفوانا نظريا ، لكنه لم يدم طويلا ، والسبب ان هذه النظرية تعرضت لانتقادات حادة تكللت في محاولات اما لرفضها كليا ، او لتعديلها واضافة مفاهيم جديدة لها .وقد بدأت تلك المحاولات في عقد الأربعينات اذ تركزت إعادة النظر حول نقاد جوهرية في النظرية الايكولوجية ،وفيما يتعلق بثنائية (الحيوي ـ الثقافي)  والاعتماد على متغير المنافسة كأساس للتنظيم الاجتماعي ، ومدى كفاءة المفاهيم الاساسية المستخدمة للتفسير .

وقد صنفت الاتجاهات التي وضعت النظرية الايكولوجية على طاولة النقاش الى اتجاهين أساسيين :

الاتجاه الأول : يمثل امتدادا للنظرية الايكولوجية المبكرة ، مع وضع بعض التعديلات ، التي تأخذ بعين الاعتبار العناصر الجوهرية في النظرية ، كالتأكيد على الجانب الحيوي والثقافي . ويمكن ان نطلق على هذا الاتجاه ” الاتجاه الايكولوجي التقليدي المعدل ” .

الاتجاه الثاني : يمثل رفضا لجوهر النظرية الايكولوجية المبكرة ، ورفض الاتجاه الاول في تصحيح المدخل الايكولوجي ، واعتمد اعتمادا كليا في توجيه المدخل الايكولوجي توجيها سوسيولوجيا بحتا . وعليه فيمكن ان نسمي هذا الاتجاه ” بالمدخل السوسيوايكولوجي ” . اما دراسات المجتمع المحلي ، والتي تعد من التطورات اللاحقة في علم الاجتماع الحضري  ، فانها كانت موجهة نحو وصف الواقع الاجتماعي وصفا تجريبيا ، وتلك هي العلامة المميزة للمجتمع المحلي ، وقد كان ذلك بدافع من تأكيد المفكرين المحافظين والليبرالين لدراسة احوال الطبقة العاملة والفقراء في انكلترا في القرن التاسع عشر ، وكان الهدف من كل ذلك ، هو التأثير في السياسات العامة نحو معالجة احوال الفقراء وقضاياهم الحياتية . وعموما فان تلك التطورات النظرية والامبيريقية ، اعطت هوية واضحة لعلم الاجتماع الحضري رغم ان الجدل النظري في هذا السياق كان على اشده ، مما قد يصعب على الدارس الامساك بواحدة من عناصر الجدل الا ان ذلك امر طبيعي ، اذا ما نظرنا الى علم الاجتماع بعامة ، انه علم ذو ابعاد نظرية متشعبة ومتناقضة ، وليست القضايا الحضرية بمأمن عن هذا الحال ، فهي الاخرى خضعت للشد والجذب بين هذا التوجه او ذاك ، وهذا ما سنلاحظه على الاقل في دراسات المجتمع المحلي .

أولا : الاتجاه الايكولوجي المعدّل

يمكن القول : ان هذا الاتجاه ليس خصيما ولا ناقما على المدخل الايكولوجي التقليدي ، بقدر ما هو مدافعا ومروجا من جديد لافكار بارك وبيرجس ، وقد برز في هذا الاطار ، باحثان هما : جيمس كوين ، واموس هاولي ، اللذان قدما لأفكار المدرسة الايكولوجية بطريقة حذّرّة ، وقصدنا من ذلك ، أنهما يعملان وهما يناقشان تلك الأفكار بأسلوب ” الشد والجذب ” فمثلا هما يشيران الى ان المدخل الايكولوجي يفترض أن لا يقتصر على دراسة التوزيع المكاني للظواهر الاجتماعية فقط ، لكن في جانب مناقض تبقى للعوامل شبه الثقافية دورا اكثر وقعا في توزيع تلك الظواهر ، ومع ذلك فان التحليل الايكولوجي حسب رأيهما يمتد الى ابعد الموجهات المؤثرة غير التوزيع المكاني[1] (احمد ،د.غريب م ، ص 219)

وفي معرض مناقشتهما لقوى التغير الايكولوجي ، فقد شككا في الأهمية التي انفرد بها متغير ” المنافسة ” بوصفه متغيرا أساسيا للتفسير والتحليل الايكولوجيين ، ويعللان ذلك ، بان ثمة عمليات أخرى تتحكم في ديناميات النمو الحضر وأنماط التوزيع المكاني للمدينة ، وبالتالي كان حقا ، ان توضع تلك العمليات جنبا الى جنب مع متغير المنافسة (احمد ، د. غريب ، والسيد ) .

ملخص الحديث ، ان ماقدماه كل من كوين وهاولي ، لم يكن بالشيء الجديد ، سوى التخريجات التي قدماها لتبرير منطلقات النظرية الايكولوجية ، كالتأكيد ــ كما قلنا ــ ، على العوامل شبه الثقافية التي تتحكم في البناء الايكولوجي .

ثانيا : الاتجاه السوسيو ايكولوجي 

لقد تطورت الاراء وتبلورت بشكل يدعو الى نقل الاهتمام من دراسة الوحدات الصغيرة ، كما نظرنا في اعمال كوين وهاولي ، الى الاهتمام بدراسة الوحدات الاجتماعية الكبرى ، بداعي الانساق الاجتماعية توجد ” ككيانات ” قائمة بذاتها ، فضلا عن انها تكشف عن خصائص بنائية ، يمكن دراستها وتحليلها بمعزل عن الخصائص الفردية ، وفي هذا السياق النظري الجديد ، طور دونكان Duncan وشنور Schore دراستهما عن الانساق الاجتماعية الكبرى[2] (Duncan,O.D,&L.schnore,pp.132-153 ) . وزبدة ما قدماه هو ان خصائص هذه الانساق يتم تحديدها من خلال ملاحظة الانشطة المنظمة التي تنشأ عن التفاعل المستمر .فكان اهم ما أضافاه هو تحليلهما للتنظيم الاجتماعي ، واعتبار هذا الجانب محور اهتمام الدراسة الايكولوجية ، والاهتمام بهذا الجانب يجنب الباحث ـ على حد قولهماـ ما اتسم به المدخل السلوكي والمدخل الثقافي من سلبيات ، ولتبرير ما يؤكدانه ، فانهما يطرحان جملة قضايا في هذا الشأن :

القضية الاولى : إن كلا من المجتمع والثقافة ، وجدا أساسا بهدف تنظيم السكان .

القضية الثانية : يساعد التنظيم على توافق السكان مع الظروف الضرورية ، التي يضطرون فيها الى الارتباط والتعاون المتبادل مع بعضهم البعض .

القضية الثالثة : إن الروابط الاجتماعية ، هي عبارة عن اعتماد متبادل للوحدات في نوع من تقسيم العمل ، وبالتالي يؤدي ذلك الى ” التكامل الوظيفي ” ، الذي هو سمة من سمات التنظيم الاجتماعي[3] (Duncan,O.D,&L.Schnore , p.136 ) .

إذا ، ينحصر اهتمام دونكان وشنور بتحليل بناء النشاط المنظم للسكان ، بعيدا عن الاهتمام بالمواقف والدوافع والمعتقدات التي يتبناها الافراد . وقد اعتبر الباحثان ” التوازن ” خاصية الانساق الاجتماعية المغلقة ، التي توجد داخل بيئة ثابتة ومستقرة ، والفضل في الاستقرار وتحقيق التوازن انما يعودان الى فعالية التنظيم الذي يعمل على ترتيب الأنشطة والأدوار وتحقيق التكامل الوظيفي . اضافة الى ذلك ، فقد طرحا اطارا ايكولوجيا يتضمن اربعة متغيرات ، يمكن من خلالها فهم الثبات والتغير في الانساق الاجتماعية وهي ( البيئة ، التكنولوجيا ، السكان ، التنظيم ) ترتبط هذه المتغيرات فيما بينها ارتباطا علميا ووظيفيا متبادلا لتشكل ما اسميناه بـ ” المركب الايكولوجي “Ecological Complex [4](Duncan,O.D,&L.Schnore , pp.678-716 ) .

[1] . احمد ، د. غريب محمد ، مصدر سبق ذكره ، ص219.

[2] . Duncan,O.D,&L.schnore,pp.132-153.

[3] Duncan,O, Ibid,p.136.

[4] . Ibid,pp.678-716.

x