ظهور المدينة في الأماكن المركزية العالمية ( المدينة القديمة ، مدينة العصور الوسطى ، المدينة الحديثة )

          يأتي الحديث عن ظهور المدن في مناطق ، مثلت بؤر مركزية ، بدءا باليونان ، والرومان ، والمدينة في أوربا الوسطى ، وانتهاءً بالمدينة الحديثة ، حالة ملحة ، لمقارنتها ، بما تم الحديث عنه سلفا (المدينة في وادي الرافدين ) ولنرى ، طبيعة الظروف التي تحكمت في بروز كليهما ـ أي المدينة في وادي الرافدين والمدينة في بلاد الغرب ـ ولا ننسى ما لأهمية المدن الأخيرة ، التي خلدها التاريخ ، لتصبح في اوقات ما منارة سياسية وعسكرية وفكرية وحضرية ، واقتصادية الى حد ما ، وهي شانها شأن سابقتها ، فقد افلت اخر خيوطها ، بعد ان دب فيها الذبول ، لتتحول الى أطلال ، شخوصها ما زالت شاهدة . لكن لتعود المدينة من جديد شاهرة ابداعاتها باستمرار ، تلك الابداعات جسدتها مدن اوربا الحديثة ، مقدمة لنا اقصى ما وصلت اليه الحضرية من تطور عالي المستوى ، وهذا ما سنوضحه لاحقا .

ـ المدينة القديمة  

جاء البروز الواضح للمدينة ، عندما ظهرت اليونان ، بوصفها دولة مستقلة بذاتها ، وكانت المدينة البيئة التي تتركز فيها كل الأنشطة ، لا سيما السياسية التي طبعت المدينة اليونانية ، حتى الحديث عن المدينة حديث عن الدولة ، فقيل الدولة ـ المدينة ، ولليونان عموما خصوصية طبيعية وايكولوجية جعلتها مميزة ، لتقدم حضرية لا تقل شأنا عن الحضريات السابقة .

فاليونان ، كما يوصف ، بلد من بلاد البحر المتوسط ، وكما يقول ارسطو : تتوسط الاقاليم المدارية والاراضي الباردة في الشمال ، واذا ما قورنت بالاقاليم الاوربية فيما وراء جبال الالب والمناطق الافريقية وراء جبال الاطلس ، فاليونان كبلاد البحر المتوسط لها جوها ومناخها ، ومناظرها الخلابة الرائعة ، وبذا كان اسلوبها في الحياة[1] (زيمّرن ، الفرد ، ص2 ) . لذا يصح القول : ان اليونان بلد له حضريته الخاصة ، التي فرضت على الحضارات اللاحقة ان تقلد حضريتها والمتتبع جيدا لتاريخ اليونان القديم ، فانه سيعثر بلا شك على ارث مميز للمدينة ، يحكي لنا ، كيف ان المدينة اليونانية كانت محورا لمختلف العمليات الايكولوجية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية .

فقد كان ينظر للمدينة في اليونان القديم ، انها اكبر وحدة سياسية ، وهي لذلك تمثل تجسيدا للمجتمع الكبير ، ووصفها هكذا ، لاعتبارها تتألف من مجموعة من الافراد الذين يعيشون بصفة مستمرة على ارض معينة وتحكمهم فئة معينة يكون لها سلطة نافذة ، فيرتبط افرادها برابطة سياسية الى جانب الرابطة الاقتصادية التي تعتبر وليدة حاجة الفرد الى غيره لتحقيق احتياجات معيشته الضرورية[2] (الخشباب ، د. احمد ، ص127 ) . ان الحضارة اليونانية ، تقدم لنا صورتين مختلفتين للمدينة ، اولهما واقعية ، اذ كانت المدينة في وقتهم مسرحا للتبادل التجاري ، ومكانا محددا للتمتع بالهوية اليونانية ، التي تكون حصرا لطبقة دون غيرها ن والتي من حقها الانخراط في الشؤون السياسية والوظائف ، اما الطبقات الاخرى فلم يكن لها شرف المواطنة . اما الصورة الاخرى ، فهي حالة متخيلة وفلسفية قدمها عمالقة اليونان امثال: افلاطون وارسطو ..

فقد صور افلاطون البنية الاجتماعية للمدينة الفاضلة ، موضحا انها ترتكز على ثلاث طبقات رئيسية متدرجة تدريجا هرميا ، ولكل من هذه الطبقات وظيفة معينة . ففي قمة الهرم الطبقي تتواجد هناك طبقة الحكام ، وظيفتها الاساسية ادراة شؤون الدولة العليا ، اما الطبقة الثانية ، فهي طبقة الجند التي تقوم بواجب الدفاع عن المجتمع وتأمين مصالح الطبقة الحاكمة ، واخيرا طبقة العمال من الفلاحين الزراعيين والعمال الصناعيين ، وهذه الطبقة تؤمن حاجات الشعب الاقتصادية[3] (مصدر سابق ، ص128 ) . وتعد حضرية افلاطون المتخيلة غاية في الدقة ، عندما يقدم لنا النواحي التنظيمية والادارية والوظيفية لمدينته الفاضلة ، موزعا الاختصاصات والوظائف الحضرية على النحو الاتي[4] ( المصدر نفسه ، ص128ـ129) :

  1. حراس الدستور الذين يتولون المحافظة على الدستور والحيلولة دون تعديله .
  2. مجلس الشيوخ وهم يتولون حكم المدينة بالاتفاق مع حرس الدستور .
  3. الكهنة ورجال الدين الذين يسهرون على رعاية الهياكل والمعابد والقيام بالطقوس الدينية .
  4. حكيم التربية وهو يتولى الهيمنة على شؤون التربية الاجتماعية والاخلاقية .
  5. رجال القضاء والمحاكم ، الذين يحكمون ويسوسون الناس وفقا لقوانين العقل ، والتي تتناغم مع القوانين الالهية .
  6. الجيش .
  7. الشرطة .
  8. عمال الزراعة .
  9. طبقة التجار .

10.الصناعيين .

وينحى ارسطو منحى افلاطون ، من حيث الاتجاه في تصوير المدينة ، متخيلا هو الاخر ومقسما المدينة الى ست اقسام ، ثلاث منها صالحة ، وثلاث أخر معاكسة وهي كما يلي[5] : (عمر ، د. معن خليل ، ص63ـ 64 ).

  1. مدينة الرشاد : يتربع على عرشها الفرد الفاضل العادل المتفوق بحكمته .
  2. مدينة العسف والطغيان : يدير امورها حاكم مستبد .
  3. المدينة الارستقراطية : وهي حكومة الاقلية العاقلة التي تتمتع بخصائص خلقية وروحية .
  4. مدينة اليسار : يدير شؤونها طبقة الاغنياء والاعيان .
  5. المدينة الجماعية : التي يكون للشعب رأي في انتخاب حكامه .
  6. مدينة الغوغاء : وهي حكومة العامة تتبع اهواءها المتقلبة دون تحكيم لمبدأ العقل .

ويبدو ان ارسطو يحاول ان يقدم حضرية صالحة ، لا تشوبها شائبة ، وهو امر قد لا يتحقق ، اذا ما نظرنا عموما الى خصائص الحضرية ، فانه حتما سنجد هناك سلبيات ، قد تجبر الفرد الى مغادرة المدينة ، او التقهقر ضمن جماعات ثقافية فرعية “Sub – Culture ” ولكن لتفادي اضرار الحضرية كما في ظهور ساسة مستبدون في المدينة ، فانه عن طريق القانون والدستور يمكن الحد من سلطات الحاكم ، وهكذا فان الحضرية اسلوب للحياة يعّدل باستمرار . واذا ما توجهنا صوب الفكر الاجتماعي الروماني ، فانه مما لا شك فيه ، يمثل فكرا ذو بعدين ، الاول فلسفيا ، لكنه يجد طريقه نحو التطبيق وذلك ما مثله اتجاه الفلسفة السلوكية بفرعيها الابيقوري والرواقي ، والثاني ، تمثله الجهود الفكرية التي انبثقث عنها مجموعة القوانين الوضعية .

هذا ، وقد نعثر على حضرية الرومان اذا ما أمعنا النظر في فلسفة ابيقور العملية ، فانه نادى بضرورة التحرر من الخوف وإشباع الرغبات الطبيعية الضرورية التي تمنح الإنسان السعادة دون الم او أي عبء ، وهذا لا يوجد عمليا الا في بيئة لا تقيد حرية الانسان وانما تعطيه المساحة الواسعة لاخراج مكبوتاته الطبيعية التي كانت مخنوقة في البيئة البدائية ، من هذا المنطلق ، نرى ابيقور ، يحمل المسؤولية للهيئة الاجتماعية وعبادة الالهة اللذان يقيدان حرية الانسان . ولمنع تدخل هاتين المؤسستين فلا بد ان تكون لمؤسسات المدينة ، او لنقل الدولة مسؤولية تحرير الانسان ومنع أي تصادم قد يسبب للانسان الما يقدح بحقه الطبيعي ، ومن هنا ايضا يأتي دور المؤسسات الحضرية الاخرى ، فالقانون والتشريع وظيفتهما كما عرفنا سابقا حماية مصالح الافراد ويمنع حدوث الفوضى ، ولم يكن ابيقور مولعا بابراز المعوقات فقط ، التي تحد من حرية الانسان ، وانما بحث من جانب سلبيات الحضرية ، لا سيما عندما يشيد / ويحذر في الوقت نفسه من الانانية الفردية ، مشيرا الى تفادي سلبية الانانية ، من خلال تقرير دور شبكات الصداقة ، فهي تساعد على بلوغ الانسان السعادة[6] ( الخشاب ، د. احمد ، ص147) . اما الاتجاه الرواقي ، فقد نظر الى انسان المدينة نظرة واسعة ، محاولا ان يبعث بالانسان الى حيز اوسع يتمثل بفكرة ” المواطن العالمي ” على عكس فكرة ” مواطن المدينة ” . فالقانون ليس قانون المدينة وحده وانما هو قانون شامل يتخطى حدود الحضرية الرومانية ، لينخرط في حضرية عالمية قوامها الدولة العالمية ، او المنظمة السياسية التي تنادي بحقوق الانسان كانسان ليس الا .

 

 

 

[1] . زيمرن ، الفرد ، الحياة العامة اليونانية (السياسة والاقتصاد ) في اثينا في القرن الخامس ، ترجمة : الدكتور عبد المحسن الخشاب ، مراجعة الاستاذ امين مرسي قنديل ، (لجنة البيان العربي ، القاهرة ، 1958) ، ص5.

[2] . الخشاب ، د. احمد ، التفكير الاجتماعي (دراسة تكاملية للنظرية الاجتماعية ) ، (دار النهضة العربية ، بيروت ، 1981) ، ص127

[3] . المصدر نفسه ، ص128

[4] . المصدر نفسه ، 129

[5] . عمر ، د. معن خليل ، تاريخ الفكر الاجتماعي ، (جامعة بغداد ، 1984) ، ص63-64

[6] . الخشاب ، د. احمد ، مصدر سبق ذكره ، ص147

x