مدخل الى علم الاجتماع الحضري

          لاشك ، ان العلوم برمتها ، تتدرج من مرحلة معرفية الى أخرى ، مقدمة لنا جملة من الأفكار والتصورات المعقدة والجديدة ، وهو أمر يترافق دائما مع تطور البحث العلمي والمعرفي ، وفي مجال البحث العلمي والمعرفي ، فأن المراحل تتوالى في صورة حُزم معرفية وعلمية جديدة ، تضاف الى إبداعات سابقة ، او تمحي بعضا من التصورات المعرفية السابقة ، وبين هذا وذاك ، فان العلوم الاجتماعية ، تتصف بأنها متراكمة علميا ومعرفيا . وهذا هو حال علم الاجتماع بعامة ، وعلم الاجتماع الحضري بخاصة ، إذ نلحظ الأخير بوصفه مدينا للأول ، لا سيما في بعض المفاهيم والتصورات النظرية ، التي تركها لنا رواد علم الاجتماع ، بدءا بـ (تونيز ) Toennies ، وانتهاءً بـ (دوركايم ) Durkheim ، وبالتالي ، فان علم الاجتماع الحضري ، يمكن وصفه بردة الفعل على التنبيه الذي أثاره رواد علم الاجتماع ، عندما أيقنوا طبيعة الظروف المثيرة التي تحيط بالمدينة The City ، داخليا وخارجيا . فكان على اثر ذلك ان تبلورت اتجاهات جديدة في مجال البحث الحضري كان أهمها[1] : ( احمد ، د. غريب ، والسيد ، ص178 ) .

  1. تزايد أهمية الدراسات المتخصصة والمتداخلة ، الأمر الذي يعكس محاولة جادة للاستفادة المتبادلة من العلوم الأخرى على المستوى المفاهيمي والمنهجي .
  2. التطور النظري ، ذلك الذي استند على الأسس الرياضية ، وتوظيف التكنولوجيا في مجال البحث العلمي ، وانعكاس كل ذلك على مسائل وقضايا علم الاجتماع الحضري .
  3. بروز الاهتمام بالجانب السلوكي ، الذي ركز على دراسات الوحدات الصغيرة ، والتكدس المكاني وغير ذلك ..
  4. ازدياد الاهتمام البراغماتي او النفعي بالتطبيقات السياسية للبحث الحضري .

لقد كانت المدينة ، الى جانب الظواهر الحضرية المترافقة معها ، تشكل بؤرة الاهتمام منذ زمن قابع في أعماق البحث الاجتماعي ، منذ ما يقرب من قرن من الزمان ، وهو يؤشر على أهمية هذا التخصص أي ـ علم الاجتماع الحضري ـ فكانت المدينة هاجسا تولد منذ عام 1890 ، عندما أيقظت جفون وخيالات عقول معرفية ، ما زلنا ندين لها بالكثير أمثال : ( تونيز ، زيمل ، فيبر ، دوركايم ) ، ولكن لم يتولد في هذه اللحظة المعرفية الباكرة اهتماما مستقلا بالمسائل الحضرية ، واهتماما كهذا ، أنما تبرّزه لنا أعمال مدرسة شيكاغو فيما مضى من الزمن (1920-1930 ) ، ثم حصلت نهضة معرفية ومنهجية ، في عقد الخمسينيات من القرن الماضي ، اذ شهدت تلك الفترة بزوغا واضحا في تناول ظواهر المجتمع المحلي ، واقتصاديات المواقع ، والاهتمام الجغرافي بأنساق المدن ..

     ومع بداية عقد الستينات انقسمت الدراسات الحضرية ، الى عدد من المجالات المتخصصة ، فمثلت الايكولوجيا مجالا للبحث الحضري . وبناءا على هذا الحال المعرفي ، لم يستمر على ما هو عليه ، فسرعان ما تغير المجال التخصصي ، لتظهر توجهات على الطريقة الفيبرية في بريطانيا ، مقدمة لنا اهتمامات حول سوق الإسكان ، باعتباره احد المؤشرات الحضرية على فرص الحياة . اما في فرنسا فظهرت توجهات راديكالية / ماركسية / نقدية ، محولة الاهتمام الى العمليات المعّول عليها في بناء إنتاج المدن . ومع هذه الآراء المتخالفة ظاهريا ، الا ان هنالك تعاون معرفي بين جميع هذه المنظورات[2]  (احمد ، د. غريب ، والسيد ، ص179 ) .

ويبقى سؤال البحث الحضري قائما ، حول أي النشاطات والاهتمامات التي أسلفنا الحديث عنها ، تشكل محور اهتمامه. فقد اهتمت مدرسة شيكاغو على العمليات الاجتماعية ، التي تتلازم مع الحياة الحضرية في المدينة ، وظل هذا المدخل مسيطرا على البحث الحضري ، مع بعض التطور الذي أضافه لويس ويرث ، الذي حدد طريقة للحياة الحضرية ، اذ ترتبط تلك الطريقة بالخصائص المميزة للمدن .

ولمعرفة تفصيلية ، تقتضيها عملية جمع المادة ، فأننا نحاول ان نحيط بالتراث النظري المتراكم في علم الاجتماع الحضري ، مبتدئين أولا : بمرحلة النشأة والتطور ، وصولا الى إقرار الاستقلال النظري للبحث الحضري .

أولا : مفاهيم علم الاجتماع الحضري (التحضر والحضرية) نماذج

          هناك العديد من المفاهيم التي تستخدم في مجال الدراسات الحضرية ، ولعل اختزالنا للموضوع جاء بناءا على ان هذين المصطلحين يمثلان معملا دلاليا واسعا ، اذ ترتبط بهما العديد من المصطلحات الفرعية الاخرى . وفي الوقت نفسه فانهما يمثلان اشتقاقات لغوية من اللفظة ” حضري ” ، ولكي نقف على معناهما ، نبدأ أولا : بتحديد مفهوم الحضرية Urbanism  .

         فيشير مصطلح الحضرية الى حالة او كيفية ، او طريقة للحياة ، كما اشار لويس ويرث الى ذلك ، وهي بهذا المعنى تنحصر في مجتمع المدينة ، وفي استعراضنا السابق للتراث النظري الكلاسيكي ، اتضح ان جملة الخصائص التي اشروها تمثل في جانب كبير منها مفهوم الحضرية ، ولتأكيد إخطار المعنى السابق نأتي على ذكر هذه الخصائص :

1.ظهور تقسيم العمل كضرورة ملحة لظروف المكان ، وهذا التقسيم للعمل يعتمد على بناء مهني ، يتسم بالتباين وهذا بدوره يؤشر البنية الطبقية الاجتماعية في المدينة .

  1. 2. ظهور مساحة واسعة للتحرك الافقي والراسي ، او الحراك الاجتماعي ، فضلا عن الحراك الفيزيقي ( المكاني ) .
  2. في مجتمع المدينة ، هناك توازن بمعنى ان هناك اعتماد وظيفي وتساند متبادل بين الافراد .
  3. بناءا على تأشيرات رواد علم الاجتماع ، فان نسق العلاقات الاجتماعية يتسم بالطابع السطحي وغير الشخصي ، الى جانب ظهور التعدد والانقسام في الادوار .
  4. في مجتمع المدينة ، تظهر وسائل للضبط الاجتماعي بصورة رسمية متمثلة بالقانون والسلطة التنفيذية.

           لكن هذا المعنى لا يقتصر في حقيقة الامر على مجتمع المدينة ، لان تقدم العقل البشري واختراعه لوسائل تقصر المسافات وتطرق الأسماع وتُنّبه الأنظار ، جعلت جميعها عملية انتقال الحضرية الى مناطق خارج المدينة امر ممكن ، بل أحيانا على أشده . فمثلا طرح نلز أندرسون بعد ان رفض فكرة ان تقوم عملية الحضرية على انتقال الناس من الأرياف الى المدن ؛ ذلك ان الحضرية قد تطال أناسا لم يغادروا قراهم الأصلية ومزارعهم ، لذلك هو يرى ان الحضرية تعني حدوث تغيرات في القيم التي يؤمن بها المنتقلون من القرى الى المدن [3] (عزام ، د.ادريس ، واخرون ، ص273) . وفي نفس السياق ، يرى جانكس وهو احد منظري ما بعد الحداثة ، ان ثمة تحولين اسهما في نقل الحضرية خارج الاطار المكاني المحدد ، الاول : هو المواصلات المعاصرة التي قوّضت حدود الزمان والمكان الاعتياديين ، وانتجت داخل المدن والمجتمعات ، عولمة جديدة وخصوصيات داخلية في الان معا ، استنادا على قاعدة الموقع والوظيفة والمصلحة الاجتماعية ، فتلك الحالة الجديدة عملت على تأمين الاتصال الاجتماعي وتقريب المسافات (…) . اما التحول الثاني ، فهو التنوع الذي شهدته الحياة المدينية ، استجابة لرغبات متنوعة (..) [4] ( هارفي ، ديفيد ، ص102- 103) .

         اما عن تعريف التحضر Urbanization فقد اشير اليه هو الاخر بعدة معاني ، وهذا ما نلاحظه في تحديد جيرالد بريز Gerald Breese في ان التحضر : عملية تغير كمي وكيفي معا ، تؤدي الى تحولات كبيرة في خصائص المجتمعات المحلية ( المدن والبلدان) وسماتها ووظائفها . وطرح كلايد ميتشل Clyde Mitchell تعريفا للتحضر ركز فيه على فكرة الانتقال الى المدينة والإقامة فيها كشرط للتحضر ، فالتحضر من وجهة نظره : تلك العملية التي يصبح الناس بموجبها حضريين ، وذلك بالانتقال من القرى نحو المدن ، والتحول من الزراعة كمهنة رئيسية الى مهن أخرى اكثر ملائمة لحياة المدن ، ويصاحب ذلك تغيرات موازية في أنماط السلوك . ومن خلال تلك التعريفات يمكن ان نستنتج بعدين رئيسين دارت حولهما التعريفات وهما : التغير باتجاه الحضرية ضمن إطار المدينة ، او التغير بالاتجاه نفسه ولو كان ذلك خارج إطار المدينة [5] (عزام ، د. إدريس ، واخرون ، ص273- 275 ) .

بناءا على ما سبق فان للحضرية والتحضر مظهرين رئيسين :

المظهر الاول : ويتمثل بالانتقال من حياة الريف الى حياة المدينة ، بوساطة الحركة عبر المكان ، او الهجرة الداخلية من الريف الى المدن وما يصاحب ذلك من تغيرات في نوع المهن والابتعاد عن الزراعة والإقبال على أعمال أخرى متنوعة ومختصة داخل البيئة الحضرية الجديدة .

المظهر الثاني : اذ يتمثل بالتغير في أسلوب الحياة من نمط معين ( النمط الريفي والأنماط التقليدية الأخرى ) الى نمط اخر مغاير وهو النمط الحضري ، دون تحرك او هجرة لسكان هذه المناطق الريفية الى المدن .

          وهكذا نجد ان الحضرية والتحضر عملية تتميز بالخصائص الآتية :

  • تحرك الناس من البيئة الريفية الزراعية الى المدينة .
  • تغير المهنة من العمل بالزراعة الى العمل بمهن أخرى غير زراعية ، حرفية ،تجارية ،او صناعية .
  • تغير في مستوى المعيشة .
  • انتقال الافراد من بيئة يكثر فيها التأثر بقوى الطبيعة الى بيئة أخرى لا تمنح هذه القوى الأهمية نفسها ، فيقل تأثيرها في نشاط الافراد ، ويصبح الإنسان هو الذي يشكل الحياة المحيطة به وفقا لحاجاته ومتطلباته وإرادته .
  • التغير في القيم والسلوكيات .

[1] . احمد ، د. غريب ، د. السيد عبد العاطي السيد ، علم الاجتماع الريفي والحضري ، (دار المعرفة الجامعية ، الاسكندرية ، 1988) ص178.

[2] . احمد ، د. غريب ، مصدر سبق ذكره ، ص179.

[3]. عزام ، د. ادريس , واخرون ، الجتمع الريفي والحضري والبدوي ، (الشركة العربية للتسويق ، القاهرة ، 2010) ص273

[4] . هارفي ، ديفيد ، الحداثة وما بعد الحداثة ، ص102-103

[5] . عزام ، د. ادريس ، المصدر نفسه ، ص273- 275

x