مدخل الى موضوع التنظيم الاجتماعي

لا شك ، أن موضوع التنظيم الاجتماعي ، ابتكارا بشريا ، بعد أن أيقن الانسان انه بحاجة ماسة الى  عقلنة النشاطات ، وترتيب الحاجات المتجددة في سياق يكفل لها الاستمرار دون اضطراب قد يحدث في بنية المجتمع ، وفي الواقع ، فان التنظيم الاجتماعي يهتم بنمط العلاقات بين الافراد والجماعات ، ومهما تكن درجة الإدراك ، او مساحة الإدراك العقلي ، فان صور التنظيم ، كان لها الوجود والظهور في سياقات اجتماعية قديمة ، فكل منها لها منظماتها اختلفت او اتفقت في اشكالها . ومن الواضح انتروبولوجيا والى حد ما ، ان الاسرة تعد الشكل الاولي للتنظيم ، ثم ظهرت القبيلة لتشكل اطارا يرتب مختلف انشطة الافراد ، رغم بساطتها ، اذ كانت القبيلة وجودا وثقافة تعمل باستمرار عبر اساليبها البدائية على انتظام سلوك افرادها خدمة للاهداف البدائية هي الاخرى ، ولعل في مقدمتها الولاء المطلق لرئيس القبيلة ، مقابل مكافآت تكبل الفرد قيودا لا يقوى على مضارعتها ، او الانفلات منها . ثم جاءت بعد ما يسمى بالاحلاف ، واللافت للنظر ، ان الاساس التنظيمي لهذه الوحدات الاجتماعية النمطية ، او غير المقصودة ، هو قرابة الدم ، التي استلهمت منها الجماعات البشرية وجودها وامانها في الحياة ، الى ان جاءت روابط اخرى ، تمثلت بالمصاهرة والجوار ، وهي كلها بررت وجود التنظيمات البدائية ، ومن ثم بررت وجود اهدافها ، كالتي ذكرناها فيما يتعلق بالولاء للقبيلة ، فضلا للخروج للقتال او الغزو مع قبيلته سواء كانت ظالمة او مظلومة ، ثم استمرت الجماعات في تقديم نماذج من التنظيمات البسيطة ، كالتي تتعلق بتنظيمات الصيد والدفاع ، وصولا الى التنظيمات التجارية والاقتصادية ، ويخبرنا هنا علماء الانتروبولوجيا ، ان ثمة تنظيمات ظهرت في جزر الاقيانوس في المحيط الهادي الجنوبي ، تمثلت بتجارة الكولا الدائرية بين مئات الجزر التي امتدت مئات الكيلومترات .

وقد وصلت التنظيمات في اعلى قمتها ، مقدمة اشكالا من المنظمات ، حتى وصف العصر الحديث بانه عصر التنظيمات ، واصبح كل ما يتعلق بحياتنا ضمن انظمة ترتب انشطتنا ، دون صراع يحدث ، قد يؤدي الى تمزيق النسيج الاجتماعي . ان ظهور الانماط الحديثة من التنظيمات ، جاء كرد فعل لتطور وتعقد الحياة الاجتماعية ، وتباين الادوار والمكانات نتيجة لتقسيم العمل ، كل ذلك وغيره استلزم وجود تنظيمات لهذا الغرض تجعل الاعمال وسلوكيات الافراد منظمة خدمة للاهداف التي وجدت من اجلها تلك التنظيمات ، والتي تتمثل في الترشيد والفعالية والكفاية ، ولعل الفرق بين التنظيمات القديمة والتنظيمات الحديثة ، هو ان التنظيمات القديمة كانت في نطاق محدود ، فلم تشمل كل مناحي الحياة الاجتماعية للافراد ، الى جانب الاسس التي استندت عليها كانت تقليدية وغير موضوعية . اما التنظيمات الحديثة ، فانها كانت موضوعية وتهدف الى احتواء ذلك التباين الكبير الذي اتسمت به الحياة الاجتماعية الحديثة ، فكان لابد من ضرورة مواجهة الظروف المتغيرة ، والحاجات الجديدة ، والنشاطات المستحدثة ، التي هي نتاجا لتعقد الحياة ،  وهكذا يبدو واضحا ان هناك اختلاف واضح في الدوافع بين التنظيمات القديمة والتنظيمات الحديثة ، اذ كان الملوك والأباطرة ورؤساء القبائل ، ينشدون من اقامة تنظيماتهم ، هو الابقاء على حكمهم وسريان مصالحهم ، وفرض ارادتهم على الافراد ، اما في المجتمعات الحديثة ، فان الحال اختلف ، لان واقع الحال شهد ويشهد باستمرار تعقيدات كبيرة وتغيرات متواترة ، كانت الدوافع الرئيسية لوجود التنظيمات ، والى جانب ذلك ، كانت ثمة عوامل ثقافية ، بررت وجود المنظمات الحديثة ، من خلال تغيرات ثقافية ، تمثلت بظهور قيم ثقافية ، تؤكد الرشد ووضوح الهدف والفعالية والموضوعية والتخصص ، ولعل هنا ، تأتي دراسة ماكس فيبر ، لتؤكد ما قلناه ، تلك التي حملت عنوان ” الاخلاق البروتستانتية وروح الراسمالية ” ليعكس لنا بوضوح التغيرات الثقافية التي شهدها العصر الحديث ، تلك التغيرات التي تؤكد على الرشد في كل تفاصيل الحياة .

إذا ، التنظيم كأسلوب ، هو يعمل على ترتيب مجالات الحياة ، وإيجاد التوازن بين التقليد والتجديد ، والذي بالمحصلة يعد توازنا بين البناء والتنظيم ، فالبناء الاجتماعي عادة ما يتسم بالاستقرار والثبات ، وفيه من القواعد والمعايير ما لم يستطع احد تخطيها ، ولكن مع وجود التنوع في سلوك الافراد ، وظهور حاجات جديدة فان امر التنظيم هنا حاجة ملحة ، ترتب نشاطات الافراد ، ويسمح التنظيم للافراد بان يتخذوا قراراتهم بشأن حياتهم الخاصة وبمساحة واسعة ، على عكس البناء الاجتماعي ، الذي تكون حدود الحرية فيه محدودة جدا . ففي المجتمع القبلي ، نجد ان البناء الاجتماعي فيه ينظر الى القبيلة الاخرى على انها عدوا لا تعاون معه ، في حين اذا ما ارادت القبيلة الاولى التصالح معها ، فانها تلجأ احيانا توظيف اواصر القرابة او الدم ، لتفادي الخصومات ، وتلك الاساليب (القرابة والاواصر النابعة منها ) تمثل اجراءات غير رسمية يتيحها التنظيم الاجتماعي ، ويلاحظ هنا ، ان التنظيم الاجتماعي في المجتمعات الريفية ، وما يرتبط به من منظمات كالقرابة والجيرة ، تعد من العوامل المهمة في تفادي حالات القتل والانتحار ، وربما ما يسمى بـ ( الفصل العشائري ) احدى الاليات التنظيمية التي وجدت لحل النزاعات والحوادث التي تنشب بين الافراد ، ونفس الحال بالنسبة للمجتمع الحضري ، فان وجود القانون والمحاكم ، ما هي الا اساليب تنظيمة هي الاخرى ، تعمل على درء الصدع ، وجعل البناء الاجتماعي / الحضري يستوعب تلك العناصر الديناميكية ، من قبيل النزاعات التي تنشب في سوق تبادل السلع والبضائع .

ويمكن لنا ، ان نستظهر ذلك التعانق بين البعدين (البنيوي ، التنظيمي) في سلوك الافراد ، لا سيما في بعض المناسبات والطقوس الاجتماعية ، فمثلا ، طقس عاشوراء ، يعد تقليدا اجتماعيا مقدسا ، لا يمكن التغاضي عنه ، او حرمان ممارسيه منه بحجة صرامة القواعد والمعايير البنيوية ، فماذا نعمل لتفادي حالة الصراع ، واحتواء المشاعر الدينية للافراد ، بالطبع لابد من اتاحة الفرصة في ترتيب ممارسة الطقوس بشكل يدعوا الى تفريغ مشاعر الافراد وتنظيم سلوكهم الجمعي ، هذه الحالة تدل على ان هناك تساند بين العنصر البنيوي والعنصر التنظيمي لطقس عاشوراء . ولنأخذ مثلا اخر ، ذلك الذي يتجسد في تقليد اجتماعي معروف هو ما يعرف بالتأبين او الفاتحة ، اذ ننظر الى الفاتحة في العراق ، نظرة بنيوية ، لاعتبارها تقليد اجتماعي ، لا يمكن الخروج عنه ، يتضمن قواعد تبيح الحزن والبكاء لى روح من يفتقده المجتمع ، اما تنظيميا ، فان هذا التقليد الاجتماعي يوفر مجالا للافراد في الاشهار والتنفيس عما يجول في نفوسهم من انفعالات هائجة ، ومن ثم فانه سيعمل على تخفيف الم احتقان العواطف ، ليعود بهم الى حالتهم الطبيعية ، التي تسمح باندماجهم في حياة المجتمع .

بناء اجتماعي                 تقليد اجتماعي (التأبين او الفاتحة )

تنظيم اجتماعي                   تفريغ الانفعالات ( البكاء والحزن )

وبناءً على التحليل أعلاه ، يمكننا ان تقف على مبادئ حركية البناء من خلال التنظيمات :

المبدأ الأول : الغموض وافتقاد الضمان ، يعني ما يحدث للافراد من صدمة نفسية إزاء فقدان احد الأصدقاء او الأقارب ..، ودور المجتمع التخفيف من حدة الانفعال ، من خلال طقس التأبين .

المبدأ الثاني : التسلسل المنتظم ، والذي يحصل كالعادة في تعاقب دورة حياة الانسان ، وما يخصص من طقوس احتفالية تعبر عن المغزى الاجتماعي والفردي لكل منها .

المبدأ الثالث : الجانب الاقتصادي ، ونعني به ، ان الانشطة الاقتصادية ، تتحرك على ارضية حددت اجتماعيا ، ولا يسمح لهذه الانشطة ان تتحرك بعيدا عن المعايير التي يطرحها البناء الاجتماعي .

ان المعاني اعلاه ، لا تقتصر فقط على التنظيم في المجتمعات التقليدية ، وان كان ظاهره يدل على التنظيم القبلي والريفي ، ولكن يبقى ضرورة فهم الارتباط بين الجانب البنيوي والجانب التنظيمي ، بنفس الطريقة الانفة الذكر ، اذا ما توجهنا صوب التنظيمات الرسمية ، لا سيما التنظيم البيروقراطي ، الذي يكفل (بغض النظر عن سلبياته ) حركية المرؤوسين داخل المؤسسة ، وبعيدا عن الصراع مع الرؤساء . ان هذا الكلام يقودنا الى توضيح معنى التنظيم الاجتماعي ، ولكن قبل ان نقترح تعريفا مناسبا هنا ، لا بد من الاشارة الى المعنى الشائع الذي يسبغه الدارسون المحدثون على التنظيم الاجتماعي ، وهو معنى يبدو واضحا انه مرتبط بالتطور الصناعي والاداري الذي شهده العالم . فالتنظيم عموما ، هو وحدة اجتماعية او جماعة يرتبط اعضاؤها فيما بينهم من خلال شبكة علاقات تنظمها مجموعة محددة من القيم الاجتماعية والمعايير . كما يُنظر للتنظيم الاجتماعي ، بوصفه يشير الى طائفة من الظواهر الاجتماعية تتناول بصفة عامة الطرق والوسائل التي بمقتضاها يتخذ السلوك الانساني طابعا نظاميا منظما منتظما . ويعنى بالتنظيم ايضا ، وحدة اجتماعية تقام بطريقة مقصودة لتحقيق اهداف محددة وتتخذ طابعا بنائيا يلائم تحقيق هذه الاهداف . هذا وتختلف تسميات التنظيم الاجتماعي ، فتارة نسمع وبكثرة بمصطلح ” البيروقراطية ” ليشير الى ما يقصد بالتنظيم ، وتارة نسمع بمصطلحات محددة مثل : ” منظمة ” او ” مؤسسة ” ولكنها تشير ايضا الى التنظيم ، ومع هذه المعاني يبدو لنا على الاقل انها لا تحتوي معاني اخرى ، تلك التي تتعلق بالوحدات الاجتماعية التي اقيمت بطريقة غير مقصودة فالتنظيم كما يقترح له هنا : يشير الى الاساليب التي تضمن انتظام السلوك سواء بطريقة مقصودة او غير مقصودة ، وفي ظروف اجتماعية تقليدية او معقلنة .

واذا ما اريد للتنظيم الاجتماعي ، ان يدوم ويستمر ، عليه ان يصوغ اهداف محددة وواضحة ، ترسم ابعاد نشاطاته ، وتجيء اهمية الاهداف هنا في انها تمثل السند الذي يبرر وجوده ـ أي التنظيم ـ والاساس الذي ينظم معاييره واحكامه . وقد يكون التنظيم في اعلى مستوياته ، مشتملا على اساليب اكثر رقيا وعقلانية ، مثل : تقسيم العمل ، الذي يتولى من خلاله كل عضو مهام وواجبات محددة يتعين عليه ادائها طبقا لقواعد واسس تنظم العمليات التي يقوم بها وتحدد خطواتها . وبناءً على الوظيفة التي يقدمها العضو يحصل على مكافأة تختلف اشكالها باختلاف التنظيم . وبحكم عضوية الفرد داخل التنظيم فانه يخضع لنظام رئاسي محدد المعالم ، يكون فيه مسؤولا عن الاعمال التي يؤديها ، والاعمال التي يؤديها مرؤوسيه ، بمقتضى تفويض للسلطة ، يعبر عن تسلسل محدد للسلطة يكون في اغلب الاحوال مركزيا .

ويخضع الفرد ايضا ، الى نوع من الاتصالات تحدد القنوات والمسارات التي تنظم العلاقات الرئاسية ، وتشترك هذه الخصائص جميعها لتشكل طبقات اجتماعية متباينة ، ومستويات مهنية مختلفة تعبر كل منها عن مصالح مشتركة واهتمامات خاصة تختلف مع المصالح والاهتمامات التي تعبر عنها الطبقات الاجتماعية والمستويات المهنية الاخرى ، مما يؤثر على بناء التنظيم ووظائفه .

ورغم اتساع التنظيم معنا واصطلاحا ، الا ان الشيء الذي يبعث على الاطمئنان وعدم الدوران الفكري هو ان هناك خصائص بنائية يتفق عليها جل الباحثين والدارسين للموضوع مثل : تقسيم العمل ، وبناء السلطة ، ونسق الاتصال ، ونظام المكافآت ، ووضوح الاهداف . وفي حدود هذا التصور المحدود ، فانه سيتم القاء نظرة فاحصة لاهم الاسهامات النظرية والامبريقية التي جاءت لاكتشاف جوانب وابعاد التنظيم الاجتماعي . واذا ما اردنا الوقوف على المحطة الاولى في ظهور الاسهام النظري الاول ، فانه سيأخذنا الحديث الى سان سيمون ، فهو اول من سجل ظهور الاشكال التنظيمية الحديثة وحدد ملامحها ودورها في المجتمعات الحديثة ، ومن المعالجات الاخرى ، تلك التي قدمها كارل ماركس Marx  وماكس فيبر  Weber وروبرت ميشيلز Michel’s فجميعهم قدموا تحليلات نظرية بالغة العمق ( سيتم تناولها لاحقا ) وهي تحليلات توصف بالكلاسيكية ، لانها تناولت التنظيم من منظور اوسع ، مكنها من دراسة التأثير الذي أحدثه نمو التنظيمات الحديثة على بناء القوة في المجتمع .

x