مفاهيم علم الاجتماع القانوني

     يعرف علم الاجتماع القانوني هو أحد فروع علم الاجتماع الذي يتخصص في دراسة جانب معين من الحياة الاجتماعية (الجانب القانوني) من اجل الوصول إلى فهم هذا الجانب من جهة، واثراء المعرفة بالحياة الاجتماعية ككل من جهة أخرى. ولكنه ليس تعريفا كافيا حيث أنه ينطبق على أي فرع آخر من فروع علم الاجتماع ( إذا استثنينا تحديد الجانب الذي يدرسه) ولكي يكون التعريف أكثر تحديداً ودقة لابد وأن يشير بالتفصيل إلى الموضوعات التي يتناولها هذا العلم بالدراسة وكيفية تناوله لها.

        وقد ذهب “روسكوباوند” إلى أن القانون هو علم الهندسة الاجتماعية التي يتحقق من خلاله تنظيم العلاقات الإنسانية في المجتمع المنظم سياسياً, أو انه كما يعبر في أحيان أخرى الضبط الاجتماعي عن طريق الاستخدام المنهجي المطرد لقوة المجتمع المنظم سياسياً.

        وقد عبر “بوهانان” عن الاتجاه نفسه الذي يرى أن القانون هو الوسيلة التي يعالج بها المجتمع نفسه ويحافظ على كيانه ووجوده.

        أما رودلف “فون اهرنج” يرى أن القانون ليس نظاما شكليا للأحكام بل طريق رئيسية في تنظيم المجتمع .

        أما “فيبر و ارليخ” .. كاتبان ألمانيان لهما مقام مميز شرحا الجانب الاجتماعي للقانون بعمق أكبر. “فماكس فيبر” عندما بحث مسألة السلطة والذي عمق فهمنا للطريقة الخاصة للأنظمة القانونية التي تعكس فلسفة هي في حد ذاتها نتاج المجتمع الذي تطبق فيه وبه, وشدد “فيبر” بشكل خاص على كيف أصبح القانون الحديث في الغرب مؤسسة من خلال بيروقراطية الدولة الحديثة .

      أما أرليخ الذي كان معاصرا “لفيبر” فقد جعل هدفه الأكبر التغلغل إلى ما وراء ستار القواعد الشكلية التي عولجت باعتبارها رديفا للقانون نفسه إلى المبادئ الاجتماعية القائمة التي تحكم المجتمع في كافة جوانبه، والتي وصفها ارليخ بأنها ” القانون الحي ” وهو يرى أن لكل مجتمع نظاما داخليا لمجموعات الكائنات البشرية التي يتألف منها، وأن هذا النظام الداخلي يهمن على الحياة نفسها, حتى ولو أنه لم يثبت في المسائل القانونية للقانون الوضعي, هذا النظام الداخلي شبيه بما يدعوه علماء الأنثروبولوجيا المعاصرون ” نمط الثقافة “.

      ويعرف “آدم بودجورتسكى” علم الاجتماع القانوني بأنه ” يهدف إلى الكشف عن العلاقات المتبادلة بين القانون وبين غيره من العوامل الاجتماعية الأخرى ( حيث يمكن اعتبار القانون إما علاما مستقلا أو عاملا معتمدا ) ليس هذا فحسب ولكن مهمته تتجاوز ذلك إلى محاولة بناء نظرية عامة تفسر العمليات الاجتماعية المتصلة بالقانون وبهذه الكيفية ربط بين هذا الفرع من المعرفة وبين المعرفة الاجتماعية بصفة عامة .

      ويعرف “جورج جورفيتش” علم الاجتماع القانوني بأنه ” دراسة جماع الواقع الاجتماعي للقانون عن طريق إقامة العلاقات  الوظيفية الكامنة بين أنواع القانون وتنظيماته وأنساقه وصور الإفصاح والتعبير عنه, وبين أنماط الأطر الاجتماعية المقابلة, ويبحث كذلك في نفس الوقت التغيرات التي تلحق بأهمية القانون, والتذبذب الذي يلحق بأدواته ومذاهبه، والدور المتنوع الذي تقوم به جماعات رجال القانون, وأخيرا النزعات الغالبة التي تسيطر على نشأة ونمو القانون وعوامل هذا النمو داخل الأبنية الاجتماعية الكلية والجزئية.

      وقد صاغ ماركس وانجلز مفهومها عن القانون في البيان حيث وجها خطابهما إلى الطبقة البرجوازية قائلين  ” أن قانونكم ليس إلا إدارة طبقتكم مصاغة في شكل قانوني, تلك الإرادة التي يتحدد محتواها بالظروف المادية لمعيشة طبقتكم بمعنى أن تطور قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج في المجتمع الطبقي هو القوة الأساسية التي تحدد مضمون القانون وتطوره وإعادة صياغته جذريا عقب الثورات الاجتماعية وانطلاقا من هذا يؤكد ماركس وانجلز ليس للقانون تاريخ خاص به لان تاريخ القانون مرتبط ارتباطا لا ينقصم بتطور وتبدل أساليب الإنتاج. والملاحظ أن جميع القوانين تعكس هدفا شعوريا محدد هو حماية المصالح الاجتماعية لمجموعة ما والدولة هي الجهاز الذي يتولى هذه المهمة لذا تتطلب الاستفادة من الحماية لمجموعة ما التي يوفرها القانون للأشخاص وعيا قانونيا من جانب هؤلاء  الأفراد ويتضمن هذا الوعي القانوني إحساس الشخصى أن له حقوقا وأنه يستطع تأكيدها عن طريق القانون ومعرفته بكيفية وأسلوب استخدام القانون لتحقيق مصالحه.

      وتم التوصل إلى التعريف وهو ” علم الاجتماع القانوني يدرس نشأة القاعدة القانونية وأسباب تطورها, كما يدرس الآثار الاجتماعية التي تنتج عن تطبيق قاعدة قانونية ما في المجتمع وعلى ضوء  هذا يمكن القول أن علم الاجتماع القانوني هو الذي يقدم التفسير العلمي للقانون ” وفي نفس الوقت فإنه يمهد للتوصل إلى اكثر الصيغ القانونية ملاءمة للمجتمع كما انه بكشفه عن الأسباب العلمية التي تكمن وراء الظواهر القانونية في ترشيد السياسة التشريعية من ناحية واتجاهات القضاء من ناحية أخرى , وهو بذلك يلعب دورا هاما في ملاءمة القاعدة القانونية للواقع الاجتماعي.

      ويعرف “ادوبين سترلاند” Edwin Sutherland   علم الاجتماع القانوني بأنه ” محاولة تحديد المبادئ التي تحكم تطور القانون واستخدامه، وهو يشترك في هذا الهدف مع فلسفة القانون والفقه الاجتماعي sociological Jurisprudence  وقد ظهر هذا التخصص في علم الاجتماع منذ حوالى عام 1960 .

      ما سبق نجد أن تعريفات علم الاجتماع القانوني تركز في مجملها على جانب أو أكثر من جوانب هذا العلم، ومن هنا نرى أن الاختلافات بين التعريفات لا ترجع إلى اختلافات جوهرية في وجهات نظر أصحابها حول ماهية علم الاجتماع القانوني بقدر ما ترجع إلى حقيقة أن هذا المفهوم (علم الاجتماع القانوني) يشير إلى ظاهرة متعددة الجوانب شأنه في ذلك شأن أي مفهوم آخر، ومن شان ذلك حدوث اختلاف بين من يتصدون لتعريفه حسب تركيز كل منهم على جانب معين من الشىء المراد تعريفه.

     على اية حال فقد افاض علماء الاجتماع في تعريفاتهم للقانون واختلفوا في نظرياتهم اليه فتناولوه من جوانب متعددة وناقشوه في مستويات مختلفة والتماساً لمزيد من الوضوح يمكننا ان نعرض في هذا الصدد لاهم وجهات نظر علماء الاجتماع في القانون ثم نحدد بعد ذلك مجال كل تعريف ومستوى التحليل الذي اعتمد عليه هذا التعريف.

ظاهرة اجتماعية وثقافية

    يعتبر امتثال اعضاء المجتمع للقانون اتجاهاً في السلوك الانساني حيث ان الناس يسلكون في عديد من مجالات حياتهم بطريقة معينة وليس بطريقة اخرى وذلك طبقاً لما يحدده القانون وقد ذهب عدد كبير من علماء الاجتماع إلى فاعلية القانون لم تكن مقتصرة على مدينة معينة او مجتمع بالذات فلا يمكن نتصور وجود حياة اجتماعية منظمة تسير بلا قانون وقد ذكر لنا الرحالة والمؤرخون ان السلوك المتوافق مع القانون ظهر منذ وقت مبكر اما الاثنولوجيون فقد اكدوا ايضاً نفس الشيء وهو وجود القانون بين القبائل المختلفة فالقانون اذن ظاهرة اجتماعية وجدت في كل زمان ومكان ولو ان وجودها يعتبر مسألة درجة يضاف إلى ذلك ايضاً انه جزء من الثقافة فهو موضوع ثقافي او قوة ثقافية ومن اجل هذا فالقانون عند كثير من علماء الاجتماع ظاهرة اجتماعية ثقافية .

محاولة لتحقيق العدالة في المجتمع

    يعتمد هذا التعريف على فكرة اساسية مؤداها ان اي تعريف حاول عزل عنصر واحد او خاصية واحدة من القانون واعتمد عليه هو تعريف مضلل وانه يسد الطريق امام دراسة الحقيقة الاجتماعية للقانون ومن اهم المتزعمين لوجهة النظر هذه “جيرفيتش” الذي حاول ان يعثر على معيار لتعريف القانون عن طريق تحديده لمجموعة الخصائص الشاملة للقيم القانونية حيث اوضح هذه الخصائص على النحو التالي .

1- تتكون التجربة القانونية المباشرة من الافعال الجمعية التي تعكس القيم الروحية المعترف بها والتي تتحقق بالفعل .

2- تتميز القيم القانونية او قيم العدالة بأنها اكثر القيم الاجتماعية اختلافاً ويرجع هذا الاختلاف الى عدة عوامل اولها اختلاف التجربة القيمية ذاتها وثانيها اختلاف التجربة المتعلقة بالأفكار المنطقية والتمثلات العقلية وثالثها اختلافات في العلاقة بين التجربة الانفعالية والتجربة العقلية .

ويستخلص “جيرفيتش” من ذلك ان اكثر تعريفات القانون ملاءمة هو ان تقول “ان محاولة لتحقيق العدالة في محيط اجتماعي معين ” والعدالة في رأي جيرفيتش ليست مثالاً ولا عنصراً ثابتاً ولكنها نسبية ولذلك فان نسبية القانون ونسبية العدالة ترجع الى حقيقة هامة وهي اختلاف التجربة القانونية الاجتماعية والضبط القانوني يختلف عن انواع الضبط الاخرى عن طريق الصفة المحددة والمميزة للأوامر القانونية في مقابل الصفة غير المحددة للأوامر الاخرى وربما يكون ذلك سبباً في ان الدور الذي تقوم به الضوابط القانونية يعتبر اكثر اهمية من الدور الذي تقوم به الضوابط الاجتماعية الاخرى في مواقف عديدة يضاف الى ذلك ان القانون يعتبر بناءً ملزماً وتخصيصياً على عكس انواع الضبط الاخرى التي تتميز بالصفة الملزمة غير التخصيصية اما هذه الصفة الملزمة للمعايير القانونية فهي تظهر في انها تربط ربطاً وثيقاً بين واجبات بعض الاشخاص وحقوق او مطالب البعض الاخر ولذلك فان القانون يطبق معياراَ واحداً على جميع الحقوق وكل الواجبات والتجربة القانونية وحدها هي التي تعتبر تجربة جمعية بينما يمكن ان تكون التجارب الاخلاقية والدينية والجمالية فردية او جمعية ويرتبط القانون دائماً بالقهر فلكي يتمكن من تطبيق قواعده لا بد ان يستخدم القوة بينما تستبعد الاوامر الخلقية امكانية وجود مثل هذا القهر في التطبيق اما بالنسبة للأوامر الدينية والتربوية فهي لا تتميز بالصفة المحددة ومن هذا المنطلق يعد القانون محاولة لتحقيق العدالة في مجتمع معين عن طريق الضبط الملزم والتخصيص القائم على الربط بين الحقوق والواجبات وبعد ان وضع جيرفيتش تعريفاً جامعاً مانعاً للقانون . اخذ يتساءل : ماهي علاقة القانون كنوع من انواع الضبط الاجتماعي بأساليب الضبط الاخرى التي تتمثل في الاعراف والتقاليد وآداب السلوك والعادات المستحدثة واجاب على هذا التساؤل بقوله :انه لابد من التمييز بين انواع الضبط كالقانون والتربية والدين والاخلاق …الخ وبين اساليبه فالأعراف والممارسات ليست انواعاً خاصة للضبط ، ولكنها اساليب توجد داخل الانواع المختلفة ولذلك هناك اعراف وممارسات قانونية واعراف وممارسات اخلاقية ودينية وجمالية وتربوية .

نظام اخلاقي ملزم

     لقد ظهرت تلك الفكرة التي تنسب للقانون خاصيتين “الاخلاقية” و”الالزامية” في دراسات متعددة وهناك اتفاق يكاد يكون عاماً على ان النظام القانوني Legal order يتمثل في انماط السلوك التي تفرضها سلطات مركزية معينة (كالمحاكم والهيئات التنفيذية). وفي الاقتناع الجماعي بأن السلوك المطابق للقانون هو ما يجب ان يتم بالفعل، ومن ثم فبالإضافة إلى الخاصية الملزمة التي يتميز بها القانون، هناك خاصية اخرى وهي الاقتناع بالقواعد القانونية والعمل على تنفيذها وهذا الجانب الاخير جانب اخلاقي .

مرشد للسلوك الانساني

      تعمل المعايير القانونية على تحديد افعال اصحاب الحق واصحاب الواجب تحديداً واضحاً وهي لذلك تعتبر قوة تقف وراء السلوك الانساني او انها مرشد لهذا السلوك وقد ذهب كثير من علماء الاجتماع إلى توسيع مفهوم القانون بحيث وجدوا ان جميع الافعال التي تؤدي باعتبارها حقوقاً لنا او واجبات علينا هي ذلك لأنه بدونها ينعدم وجود النظام وتقل قدرة الجماعة على اداء وظائفها بفاعلية وبالتالي يتصدع بناؤها ويصبح وجودها ضرباً من المستحيل وبناء على ذلك فان المعيار القانوني ليس تعبيراً عن هذا الدستور او ذاك. او هو نتاج خيال فقهاء القانون بل هو قوة حية ذات عمل مستمر تحدد وترشد السلوك الانساني حتى يصبح في نهاية الامر سلوكاً اجتماعياً .

واخيراً. فأنه لا يمكن لنا ان نأخذ بتعريف من هذه التعريفات ونستبعد التعريفات الاخرى وانما كل تعريف يكون ملائماً في المستوى الذي يستخدم فيه اي من وجهة النظر التي وضعته ولذلك ،اذا كنا ننظر الى القانون نظرة شاملة باعتباره يوجد في كل زمان ومكان فهو ظاهرة اجتماعية واذا نظرنا اليه في مجتمع معين فهو فكرة  لتحقيق العدالة في هذا المجتمع بالذات اما اذا نظرنا اليه على مستوى سلوك الافراد والجماعات فهو نظام اخلاقي ملزم وهو مرشد وموجه لهذا السلوك .

x