بين الاتجاهات وعدد من الحالات أو الظاهرات النفسية أشكال من التفاعل والترابط مع وجود أشكال من التباين والاختلاف. وإن مما يوفر مزيداً من البيانات في فهم الاتجاهات ومكوناتها الوقوف عند خمس من هذه الظاهرات، هي: الدوافع والميول والاعتقادات والقيم والآراء، في محاولة لبيان ما بينها وبين الاتجاهات من اختلاف مع الاعتراف بأن نقطة الاختلاف ليست دائماً واضحة كل الوضوح.
الاتجاهات والدوافع: يتكرر في الدراسات النفسية القول: إن وراء كل سلوك دافعاً أو أكثر يحرض ذلك السلوك ويستثيره ويوجهه. ويكون السؤال هنا: ما مكانة الدوافع في الاتجاهات؟
إن لدى الشخص الكثير من الاتجاهات، ولكنها لا تعمل باستمرار ولا تكون باستمرار في مستوى الشعور بل يمكن أن تكون وراء الشعور في نوع من «النوم» أو «الحفظ» على أن يأتي ما يستثيرها. وقد يأتي المثير من الداخل وقد يأتي من الخارج، ويكون النظر إلى الاتجاه في الحالتين على أنه «تهيؤ» أو «نزوع» لتحريك السلوك باتجاه معين. فإذا وجد المؤثر، مثل ظهور فكرة تتصل بالكتل السياسية لدى شخص يناقش الموضوع بينه وبين نفسه أو يناقشه مع آخر، فإن هذا المؤثر يستثير الدافع للاستجابة، ويستثير الدافع بدوره ذلك التهيؤ. ومن هنا يقال إن الاتجاه تهيؤ لسلوك يدعو إليه دافع ما، أو أكثر، والمؤثر هو الذي يحرض الدافع. ومن هنا يقال كذلك إن مثل هذا السلوك سلوك موجه بالاتجاه الموجود لدى الشخص، وهو موجه لتنفيذ ما يعبر عن ذلك الاتجاه. والدافع قوة داخلية، وشدته اللاحقة بشدة تحريضه من المؤثر تنعكس على شدة ظهور الاتجاه. والاتجاه نفسه قوة كذلك لما يتضمنه من اعتقادات وقيم وعواطف، فإذا بدأ تحقيق وظيفته وتوجيه السلوك، فإنه يغدو قوة تتفاعل مع قوة الدافع وتتعاون معها. ومع ذلك يبقى الدافع مختلفاً عن الاتجاه من حيث هو حالة أو حادثة نفسية.
الاتجاهات والميول أو الاهتمامات
يكشف فحص اهتمام الشخص بشيء ما عن رغبة يحتمل فيها أن تكون في واحد من طرفين: الرغبة في الحصول على ذلك الشيء أو الرغبة في البعد عنه وتفاديه (راغب فيه، أو راغب عنه). والرغبة ظاهرة يراها علماء النفس لاصقة بمصطلح الاهتمام أو دالة عليه. فالرغبة في الشيء تعبير عن الاهتمام به أو الميل إليه، أو عن الاهتمام بتفاديه أو الميل عنه. ومن هذا المنظور، وبسبب من أن ظهور الاهتمام أمام عين الدارس أكثر سهولة من ظهور الميل، غدت دراسات نفسية كثيرة تستعمل مصطلح الاهتمام interest بدل مصطلح الميل للمعنى نفسه.
والغالب في الاهتمام، أو الميل، الصبغة الانفعالية التي ترافق سلوك الشخص نحو موضوع اهتمامه: إنه يبدو محباً لذلك الموضوع أو نافراً منه، منجذباً إليه أو مبتعداً عنه. والصبغة الانفعالية، كما ذكر من قبل، موجودة في الاتجاه. ثم إن في الاهتمام صبغة عقلية تبدو واضحة حين يقدم الفرد مسوغات عقلية كذلك. ولكن هنا فرقاً أو اختلافاً، مع ذلك بين الحالتين،ويظهر هذا الفرق في أمور أهمها أربعة:
الأول أن الصبغة العقلية تغلب على الاتجاه وتكون الصبغة الانفعالية ضعيفة، وأن الصبغة الانفعالية غالبة على الميل أو الاهتمام وتكون الصبغة العقلية ضعيفة. والأمر الثاني هو الاختلاف في درجة الثبات والاستمرار: فالاتجاه أكثر ثباتاً في النفس واستمراراً في حياة الفرد مما عليه الحال في الاهتمام. أما الأمر الثالث: فالاختلاف في الموضوع أو الهدف: فالغالب على موضوعات الاتجاهات أنها اجتماعية وأن العناية بها في المجتمع واضحة والحال ليست كذلك في موضوع الاهتمام أو هدفه: إذ يحتمل كثيراً أن يكون موضوع الاهتمام شيئاً يخص الشخص وحده. وأما الأمر الرابع فهو أن الاتجاه أكثر عمقاً في بناء الشخص وأشد أثراً من الاهتمام وذلك بسبب من غلبة الصبغة العقلية على الاتجاه ومن توظيف الاتجاه قناعات الشخص واعتقاداته حين يغدو هذا الاتجاه قائماً عنده.
الاتجاهات والاعتقادات: الاعتقادات أحكام ضمنية أو ظاهرة تدل على وجهة نظر للشخص بشأن خاصية أو خصائص لشيء ما أو أمر ما. إنها تعبر عن الصحة أو الخطأ فيما ينسب إلى ذلك الشيء أو الأمر، أو إنها تثبت في الذهن علاقة بين ذلك الشيء أو الأمر وبعض الخصائص. ومثال ذلك الاعتقاد بأن متحدثاً يروي حادثة ما صادق فيما يقول. يضاف إلى ذلك أن الاعتقادات أفكار تعبر عن نوع من الأحكام المعرفية أو عدة محاكمات، وأنها لا تحمل الصبغة الانفعالية في أعماقها. أما الاتجاهات فلكل منها موضوعه وهو أوسع من موضوع الاعتقاد في تنوع حالات ظهوره ثم إن في الاتجاه من الصبغة الانفعالية ما لا يوجد في الاعتقاد على وجه العموم. ومع ذلك فإن من اللازم القول إن الاتجاه الواحد يلخص أو يختص أو ينطوي على عدة اعتقادات ولكن من دون أن يقف عندها أو يتطابق مع كل منها: فقد يبدو الاتجاه مختلفاً مع اعتقاد يكون جزءاً أو طرفاً من عدة اعتقادات ينطوي عليها الاتجاه.
الاتجاهات والقيم: تؤلف القيم نظاماً عميق المكانة في بنية الشخصية، ومن بين النظريات في طبيعة الشخصية النظرية القائلة إن الشخصية نظام قيم. والقيم متنوعة بينها العقلي، والاجتماعي، والأخلاقي، والجمالي، والاقتصادي وغير ذلك. ويوضح تحليل أي منها على أنها تعبر عن هدف حياتي وأنها معيار لسلوك الفرد. إن المال لدى شخص لا يهمه إلا المال يعبر عن أن للمال لديه قيمة ترتفع فوق كل القيم الأخرى وتؤثر في تنظيمها في بنية شخصيته. وحين يفحص قوله وفعله يرى أن المال معيار لديه يحكم عن طريقه على كل أنماط سلوكه المختلفة. والاتجاه لا يؤلف معياراً للسلوك، ولا يكون هو ذاته هدفاً حياتياً. ومع ذلك فإن من الممكن القول إن الاتجاه تعبير داخلي عن قيمة أو مجموعة قيم وإن عمق القيم ونظام عموميتها من حيث الموضوعات التي تتناولها أعظم مما هي الحال في الاتجاهات.
الاتجاهات والآراء: الرأي مصطلح قريب من مصطلح الاتجاه ولاسيما في حديث الإنسان العادي في مناسبات الحياة اليومية. يضاف إلى ذلك أن الآراء كثيراً ما تعتمد في الكشف عن الاتجاه أو الاتجاهات لدى شخص ما وضع موضع الملاحظة أو في دراسة علمية عن الاتجاهات لدى مجموعة من الأشخاص. وكثيراً ما أوردت قياسات الرأي العام أن نتائجها- الخاصة بالرأي العام- تعبر عن اتجاهات الناس نحو هذا الحزب أو ذاك. ونحو هذا المرشح لرئاسة الجمهورية أو ذاك. والرأي حكم شخصي يطلق على شخص أو حادثة أو علاقة أو غير ذلك في مناسبة أو ظروف ما ويعبر عما يراه الشخص بشأن ما يطلق رأيه عليه. فإذا اتجه البحث إلى المقارنة بين الاتجاه والرأي، تبين أن الاختلاف بينهما يمكن أن يظهر في أربع نقاط. الأولى أن الرأي حكم محدد يطلق على حادثة محددة في مناسبة ما، والأمر ليس كذلك في الاتجاه الذي يعد تهيؤاً للسلوك باتجاه ما نحو أمر ما يمكن أن يظهر ضمن شروط متنوعة وفي مناسبات مختلفة. والثانية أن الصبغة الانفعالية المرافقة للسلوك المعبر عن الاتجاه هي أكثر بروزاً أو ظهوراً من الصبغة الانفعالية في الرأي، مع العلم أن العوامل الانفعالية، مثل المشاعر وغيرها. يمكن أن تتدخل في تكون رأي ما كما يمكن أن تتدخل في تكون اتجاه ما. والنقطة الثالثة أن من الممكن التأكد من صحة الرأي أو الخطأ فيه أي من التطابق بين حكم صاحب الرأي وواقع الحال أو الأمر الذي يطلق عليه الحكم، أما الاتجاه فلا تتوافر الفرص فيه للتحقق من صحته بعد التأكد من وجوده لدى صاحبه. فمن الممكن التأكد من صحة رأي يقول إن دولة «س» خسرت مئة دبابة في الأيام الأولى من حربها مع «ع»، ولكن مثل هذا التأكد غير وارد حين يعبر شخص عن اتجاهه الذي ينطوي على استهجان الحرب ونفوره منها. وأما النقطة الرابعة فهي أن الرأي سلوك واضح يوضع موضع الملاحظة مباشرة، أما الاتجاه فتهيؤ ضمني لا يلاحظ مباشرة بل تدل عليه أنماط من السلوك بينها الآراء.
دراسة الاتجاهات وقياسها:
دراسة الاتجاهات: ورد في فقرات سابقة أن الاتجاهات لا تخضع للملاحظة مباشرة وأن كشفها يكون عن طريق أنماط السلوك المعبرة عنها.
وهناك خمس طرائق شائعة في دراسة الاتجاهات.
تعرف الطريقة الأولى بأنها نظرية وأنها دراسة موجهة بفكرة تكوين نظرية حول الاتجاهات. ويهتم الباحث الآخذ بهذه الطريق بتكون الاتجاهات والعوامل في ذلك، وتعديل الاتجاهات وكيف يأخذ مجراه، والتفاوت في الاتجاهات من جانبها الإيجابي وجانبها السلبي، لينتهي إلى وضع نظرية حول طبيعة الاتجاهات ومكانتها في نظام الشخصية. وكثيراً ما يستفيد الآخذ بهذه الطريقة من نتائج دراسات تفصيلية سلكت طرائق أخرى في الدراسة الخاصة بالاتجاهات.
وتعرف الطريقة الثانية بأنها وصفية قائمة على الملاحظة. وتبدو هذه الطريقة واضحة في تنظيم ملاحظة علمية متعددة الخطوات والتكرار تتناول سلوك مجموعة من الأفراد تكون اتجاهاتهم موضوع الدراسة وتكون الغاية سبر تلك الاتجاهات لديهم ووصفها. وكثيراً ما يتم اعتماد هذه الطريق في دراسة اتجاه مجموعة من الأطفال نحو لعبة ما من الألعاب الرياضية. ولكن هذه الطريق تواجه صعوبات عادة بسبب من الوقت الذي تستغرقه الملاحظة ويحتاج إليها تكرارها, وكذلك بسبب من صعوبة تدريب الأشخاص على القيام بملاحظة علمية دقيقة.
أما الطريقة الثالثة فهي الطريقة التجريبية، وفيها تنظيم تجربة موضوعها أمر علمي ما تنظيماً يوفر فيه شروط الضبط والتحكم بالمتغيرات وإمكان استخراج النتائج بلغة الكم. ويغلب أن تنظم التجربة للتحقق من فرضية تم تأليفها من قبل. وكثيراً ما تعتمد هذه الطريقة في التعرف على الاتجاه الذي يتكون لدى الطلبة نحو مهنة أو موضوع دراسي بعد تعرضهم لمؤثرات كثيرة تبرز خيرات ذلك الموضوع أو تلك المهنة.
وفي الطريقة الرابعة تعتمد دراسة الاتجاهات على الاستفتاء الذي يتناول مجموعة كبيرة من الأفراد في مجتمع ما. وفي الاستفتاء استطلاع للرأي العام، وفي تجمع الآراء حول أنماط من السلوك تعبر عن اتجاه ما دليل على ذلك الاتجاه: على منحاه الإيجابي، التفضيل الإيجابي، أو على منحاه السلبي وما فيه من عدم تفضيل.
ويكون القياس الطريقة الخامسة التي تعتمد في دراسة الاتجاهات, وهي أكثر الطرائق استخداماً. هنا تعتمد دراسة الاتجاهات، على مقياس علمي موثوق أعد من قبل، لكشف اتجاه شخص، أو مجموعة أشخاص، نحو موضوع ما انطلاقاً من الإجابات التي تقدم استجابة لعبارات المقياس.
قياس الاتجاهات: يعتمد قياس الاتجاهات على الإجابات التي يقدمها الشخص عن عبارات نظمت تنظيماً علمياً دقيقاً في مقياس خضع لإجراءات علمية معينة قبل أن يعد مقياساً موثوقاً. وقد تأخذ العبارة صيغة سؤال، وقد تكون بيانية وصفية. وتتناول العبارات في المقياس الواحد كل الجوانب والتفصيلات المتصلة بموضوع الاتجاه وما يحتمل أن يظهر من أنماط في السلوك المعبر عن ذلك الاتجاه. وينظم المقياس تنظيماً يسمح بوضع إشارة بسيطة، أو كتابة كلمة، أمام كل عبارة تبين مدى انطباق تلك العبارة على حاله، مع العلم أن «المدى» يوضع في درجات من شدة الموافقة إيجاباً وسلباً: أوافق بشدة عظيمة. حتى.. لا أوافق أبداً. كذلك ينظم المقياس تنظيماً يسمح بنقل إجابات الشخص إلى لغة الكم. والفكرة الأساس في المقياس هي أن الشخص يقدم تقريراً عن ذاته حين يقول إنه يوافق بشدة على ذلك الأمر، وأن المقياس يشمل في عباراته شمولاً مناسباً عينة جيدة من أنماط السلوك التي يظهر الاتجاه عن طريقها وتعبر عنه.
ولما كانت الاتجاهات كثيرة لدى الأشخاص، وكانت موضوعاتها مختلفة، فإن قياس هذه الاتجاهات يحتاج إلى عدد كبير من المقاييس يكون كل منها معد لاتجاه ما. وانطلاقاً من تنوع المجتمعات والاختلافات بينها في النمط الثقافي، وتنوع الدراسات العلمية، وتنوع الطرائق في حساب النتائج في المقاييس وفي صوغ عباراتها، فإن هناك تنوعاً كبيراً في المتوافر من المقياس في العالم لاتجاه واحد.
وفي مقدمة الطرائق المعتمدة في حساب النتائج الكمية للمقياس طريقتان: تعرف الأولى باسم ثورستون Thurstone الذي بدأ بها، وتعرف الثانية باسم ليكرت Likert الذي اعتمدها في المقاييس التي بناها لعدد من الاتجاهات. وتقوم طريقة ثورستون على استخراج القيمة السلَّمية (أي القيمة ضمن السلَّم) للإجابة الخاصة بالعبارة انطلاقاً من قيمة الوسيط في إجابات المجموعة التي تم اعتمادها في بناء المقياس. ولما كانت قيمة الوسيط هي القيمة التي تقابل الإجابة التي تقع فوقها 50% من الحالات وتحتها 50% من الحالات، فإن المحصلة لإجابات المفحوص تكون بجمع القيم السلّمية التي حصل عليها كل من إجابات لدى مقارنتها مع القيم السلّمية الموضوعة للمقياس المعد علمياً من قبل.
أما طريقة ليكرت، وهي الأكثر استعمالاً في البحوث النفسية والتربوية فتقوم على منح قيم كمية محددة لكل درجة من درجات الإجابة عن العبارة الواردة في المقياس، وينطلق منح إجابة المفحوص قيمة كمية من ذلك الأساس. فإذا كانت الإجابات المختلفة منظمة في المقياس على أساس درجة من خمس درجات أعلاها «أوافق بشدة»، وأدناها «أخالف بشدة» (الموافقة والمخالفة كل منهما تعبير يقدمه الشخص المفحوص عن نفسه) وكانت القيم الكمية ممنوحة ما بين 5 علامات وعلامة بالتدرج، فإن إجابة شخص عن عبارة ما بقوله أوافق تكون 4 علامات، ويكون مجموع العلامات التي حصل عليها نتيجة إجابات عن كل عبارات المقياس هو التعبير عن مستوى شدة وجود الاتجاه لديه، أي الاتجاه موضوع القياس.
أما إذا صيغت بعض الأسئلة صوغاً سلبياً فيجب البدء بقلب الأجوبة حتى تعد اتجاهاً إيجابياً أو سلبياً، ويسهل تطبيق ذلك عندما تكون درجات ليكرت ثلاثاً.