يهتم الإنسان بشكل كبير بعلاقته بالآخرين حوله، فهو جزء من عالمهم و هم عالمه، يريد أن تمنحه علاقته بهم كل شيء يحتاجه ، لذا فأي شيء سلبي يمس علاقته بالآخرين يؤذه نفسيا واجتماعيا.
من الظواهر التي تحيط بنا في هذا المجتمع الواسع ” انصياع شخص لآخر” وهذا الانصياع يعني التحكم بهذا العلاقة الاجتماعية بحسب مزاجية شخص لا علاقة لنا به، وتتفاوت استراتيجية تلك العلاقة بحسب حجم الانصياع الذي قد يكون في بعض الأحيان شاملا وفي كافة الشؤون.
الطبيعية البشرية الحرة المستقلة لا تحب هذه العلاقة وتنفر منها بشكل أو بآخر، و لكل منا في هذه الحياة تجربة أو أكثر سمعها أو عاشها تتحدث عن معاناة اجتماعية بسبب انصياع إنسان لآخر.
ويحدث في عالم الفتيات أن تتسلط صديقة على صديقتها أو أخت على أختها، مما يؤثر سلباً فيما بعد على علاقتهما وعلى شخصية كل منهما، ويزيد الأمر سوءاً إذا ما كانت الشخصية المتسلطة تقوم بأفعال خاطئة وترغم الأخرى على اتباعها.
تروي منى تجربتها مع صديقاتها، تقول:”كانت لي صديقتان في المدرسة، وكانت إحداهما متسلطة على الأخرى بشكل كبير، فإن خاصمت إحدى الزميلات كان على الأخرى أن تخاصمها، وإن رضيت عنها لابد للأخرى أن تتخذ الموقف ذاته، والغريب في الأمر أن صديقتنا كانت تنصاع دون اعتراض أو مناقشة لكل ما يُطلب منها!”.
أما نعمة فيغيظها جدا التعامل مع الآخرين بأوامر وتوجيهات من شخص آخر، إذ تعيش تجربة تسميها ” تحكم عمتها الصغيرة في الأخرى الأكبر” ، تقول :”عمتي الأكبر طيبة وحنونة لكنها للأسف لا تفعل شيئا إلا إذا سألت عمتي الأصغر وهذه الأخيرة تحب السيطرة والتحكم في الآخرين ومزاجية جدا “.
وتضيف نعمة :” إذا أردت عمتي الأصغر التوقف عن التواصل الاجتماعي معنا بسبب توتر ما أو مشكلة معينة حصلت بيننا، فعمتي الأكبر تنصاع لها وتفعل مثلها رغم أنها لا علاقة لها بالمشكلة “.
عملية الجزر والمد لهذه العلاقة أجبرت نعمة بعد محاولات عدة لتصليح أوضاع هذه العلاقة، أن تكون علاقتها بعمتها تلك عادية جدا، لا تغضب ولا تضع بالا لأفعالها كما في السابق، وذلك بعد أن زعزعت ثقتها بها؛ فكيف تقبل علاقة مرتبطة بأوامر ومزاجية شخص آخر، وتضيف :” في الآونة الأخيرة تقدم لابنة عمتي الكبيرة عريس، فطلبت وبشكل مباشر من الناس أن يتوجهوا لشقيقتها لأخذ رأيها!.”
أما الشاب ناصر فله أيضا تجربة عانى منها وهي ناتجة عن انصياع صديقه “سابقا كما يقول” لزوجته! ويروي لنا القصة فيقول :”كنا أصدقاء، نبني صداقتنا على التفاهم و التشاور ولكلا شخصيته وآرائه ومواقفه، ثم تزوج هذا الرفيق فغير علاقته بي كليا وبشكل مباشر بعد الزواج” ويتابع القول :”حزنت جدا في البداية، فأنا تزوجت قبله وكنت حريصا جدا على التواصل معه بحكم الصداقة، وكانت زوجتي تحب مني التزامي وعلاقتي الطيبة بأصدقائي، وعندما تزوج هذه الرفيق أصبح لا يتصل بي! ولا يكلمني إلا في حدود ضيقة جدا؛ بسبب أنانية زوجته وانصياعه لكافة أوامرها، فهي تريده لها فقط، توقف عن كل شيء، عن مبادلتي الزيارة، عن الاتصال بي، عن السؤال عنا في مرضي أو شدتي، وأنا قريب من سكنه وأعلم أنه لا ظروف تمنعه عن ذلك إلا انصياعه لزوجته، لقد تحكمت في كل شيء في حياته كما أسمع من المقربين منه، يحزني جدا أنه على خلق ودين وفعل هذا بي وبأهله وبالكثير من المقربين منه! و أمنتي أن أسمع منه إجابة منه عن سبب ذلك، لماذا فعل هذا بنا ونحن الذين لا نريد إلا الخير والاستقرار له “.
المنصاع يفقد ثقة وحب الآخرين
ولا تختلف نظرة الشابة بشرى عودة لهذه التجارب عن سابقيها، فتقول :” يعاني الكثير في مجتمعنا من تسلط آخر عليه، وهذا طبيعي لحد ما، كتسلط أخت على أختها أو صديقة على صديقتها، أو تسلط الأخ على أخته، أو الزوج على زوجته، أو الزوجة على زوجها أو رئيس العامل على موظفه وكل هذا بحكم العلاقة مقبول لحد ما، ونحن لا نتوقف عن سماع الشكوى والتذمر من هذا التسلط بسبب عدم الرضا عنه.
أما المصيبة الكبرى في الانصياع للأخر مع عدم شعور المنصاع بأنه يعيش مأساة، وأن الناس تستهين به جدا وتنفض من حوله وتتعامل معه بأنه دون شخصية “.
وتضيف بشرى:”يحدث هذا في مجتمعنا كثيرا، وأنا أخاف على أخواتي جدا، ودائما أوجهم إلى أن الآخر إنسان مثلك، رأيه وموقفه يحتمل الصواب والخطأ خاصة الأقران، أحاول أن أربي فيهم الشخصية الاستقلالية التي تأخذ وتعطي مع الناس لا تنفذ توجهات وأوامر”.
وتحمد بشرى الله على نعمة الإسلام التي منحت الإنسان الحرية الكاملة ووجهته إلي الانصياع فقط لأوامر الله عز وجل ورسوله عليه أفضل الصلاة والسلام وأولي الأمر، وقالت:”ديننا واضح وصريح، لم يلزمنا بالانصياع لأخ أو قريب أو صديق فلماذا نجر على أنفسنا ويلات من الانصياع لنفوس الآخرين القاسية في غالب الأحيان، ونحن نعلم أنه لا تزر وزارة وزر أخرى وأن هؤلاء لن يحملوا عنا شيئا من الأوزار التي وجهنا إليه حتى لو كانت بسيطة ومحدودة “.
الانقياد ظاهرة اجتماعية
ويرى د. سمير زقوت أستاذ علم النفس والأخصائي النفسي ببرنامج غزة للصحة النفسية:”أن التسلط والانقياد لتنفيذ رغبات ذلك الشخص ممن هم أقل قوة منه، ظاهرة اجتماعية أثمرها القهر السائد في المجتمع ككل، وانعدام الديمقراطية والحرية التي هي أساس الحياة إذ تعطي مجالاً للرأي والتعبير والثقافة، لافتاً أنه بغياب الحرية والديمقراطية يصبح المجتمع مذعن ينفذ أوامر الآخرين دون نقد أو تفكير وينقاد لآراء الأقوى”.
ويشير د. زقوت إلى دراسة بحثية أجراها أحد علماء النفس إبان الحرب العالمية الثانية حول الانصياع والانقياد أراد الباحث أن يفسر من خلالها أسباب قيام الجنود بتعذيب الأسرى وقتلهم ؛ فوجد أن حوالي 70-80% يقبلون أوامر الآخرين الذين هم أعلى منهم أو لديهم سلطة عليهم، وأضاف أنه خلال التجربة التي أجراها وجد أن معظم الذين أجرى عليهم التجربة – ومنهم متعلمون أطباء ومعلمون ومهندسون وعمال- والقائمة على إعطائهم تعليمات بالقتل والتعذيب لتنفيذها على صورة ليست حقيقية للضحية، وجد أن نسبة 70% منهم يبقون على تعذيب الضحية حتى بعد موتها، مما يدلل على أنهم يقبلون الأوامر دون تفسير، واستنتج الباحث أن الانقياد والانصياع لأوامر الأقوى جزء من طبيعة البشر.
ويقر د. زقوت بصحة تلك النتائج التي توصل إليها ذلك الباحث؛ مؤكداً أن عملية الانقياد موجودة في فطرة الإنسان وطبيعته، وأضاف نجدها –أي عملية الانقياد- في الحياة بجميع تفصيلاتها بدون أن يكون هناك أي ترتيب لها، فالضعيف يطيع الأقوى والمصدر للأوامر بلا أدنى تفكير فقط طاعة عمياء بدون تفكير.
ولعل أسباب الانقياد للشخص المتسلط وتنفيذ أوامره دون تعديل أو تفكير ترجع لعدة أسباب يبينها د. زقوت أهمها: ضعف في الشخصية، وعدم الوعي، وعدم تطور الشخصية، وعدم تقديرها لذاتها، مما يجعله ينصاع لأوامر الآخرين دون أن يفكر، وأيضاً نتيجة القهر الذي يعيشه الإنسان في مجتمعه والذي يجعله ينفذ الأوامر بالسمع والطاعة مردداً المثل:”أنا أنفذ الأوامر فقط.. تمام يا أفندم.. حاضر”.
من ناحية أخرى يشير د. زقوت إلى صفات الشخص المتسلط فهو ديكتاتوري أمره نافذ، مهما كان صائباً أم خاطئاً ينفذه بالقوة التي يمتلكها، سواء القوة الجسدية أو القوة الاجتماعية، التي أصبحت في حياتنا العادية ظاهرة منتشرة، وهذا يجعل ذلك الزعيم يشعر بالنشوة وأنه كبير، وأنه يملك الدنيا ويشعر بالانتصار والقوة.