إذا درست باحثا معدودا في أخلاقه وآثاره رأيت فيه صفات خاصة فطرية ومكتبية وخلقية ومهنية، وإذا نظرت إلى هذه الصفات وجدتها كثيرة ووجدت فيها ما يشارك به المختصين الآخرين في كل حقل من ذكاء وعلم وثقافة عامة وخاصة وتجربة وما إلى ذلك، ومن إخلاص وأمانة وما إليها ومنها يشارك به غيره، ولكنها لديه ذات دلالة مرتبطة بعمله الخاص، ومنها ما يجب أن يتفرد به بحكم البحث
- مستلزمات البحث الجيد:
- العنوان الواضح والشامل للبحث :ينبغي أن يتوفر ثلاث سمات أساسية في العنوان هي:
- الشمولية: أي أن يشمل عنوان البحث المجال المحدد والموضوع الدقيق الذي يخوض فيه الباحث والفترة الزمنية التي يغطيها البحث.
- الوضوح: أي أن يكون عنوان الباحث واضحا في مصطلحا ته وعباراته واستخدامه لبعض الإشارات والرموز.
- الدلالة: أن يعطي عنوان البحث دلالات موضوعية محددة وواضحة للموضوع الذي يبحث ومعالجته والابتعاد عن العموميات.
- تحديد خطوات البحث وأهدافه وحدوده المطلوبة البدء بتحديد واضح كمشكلة البحث ثم وضع الفرضيات المرتبطة بها ثم تحديد أسلوب جمع البيانات والمعلومات المطلوبة لبحثه وتحليلها وتحديد هدف أو أهدافا للبحث الذي يسعى إلى تحقيقها بصورة واضحة ووضع إطار البحث في حدود موضوعية وزمنية ومكانية واضحة المعالم .
- الإلمام الكافي بموضوع البحث: يجب أن يتناسب البحث وموضوعه مع إمكانات الباحث ويكون لديه الإلمام الكافي بمجال وموضوع البحث .
- توفر الوقت الكافي لدى الباحث: أي أن هناك وقت محدد لإنجاز البحث وتنفيذ خطواته وإجراءاته المطلوبة وأن يتناسب الوقت المتاح مع حجم البحث وطبيعته .
- الإسناد: ينبغي أن يعتمد الباحث في كتابة بحثه على الدراسات والآراء الأصيلة والمسندة وعليه أن يكون دقيقا في جمع معلوماته وتعد الأمانة العلمية في الاقتباس والاستفادة من المعلومات ونقلها أمر في غاية الأهمية في كتابة البحوث وتتركز الأمانة العلمية في البحث على جانبين أساسيين :
- الإشارة إلى المصادر التي استقى منها الباحث معلوماته وأفكاره منها.
- التأكد من عدم تشويه الأفكار والآراء التي نقل الباحث عنها معلوماته.
- وضع أسلوب تقرير البحث : إن البحث الجيد يكون مكتوب بأسلوب واضح ومقروء ومشوق بطريقة تجذب القارئ لقراءته ومتابعة صفحاته ومعلوماته.
- الترابط بين أجزاء البحث :أن تكون أمام البحث وأجزاءه المختلفة مترابطة ومنسجمة سواء كان ذلك على مستوى الفصول أو المباحث والأجزاء الأخرى.
- مدى الإسهام والإضافة إلى المعرفة في مجال تخصص الباحث :
أن تضيف البحوث العلمية أشياء جديدة ومفيدة والتأكيد على الابتكار عند كتابة البحوث والرسائل .
- الموضوعية والابتعاد عن التحيز في ذكر النتائج التي توصل الباحث إليها توفر المعلومات والمصادر من موضوع البحث :توفر مصادر المعلومات المكتوبة أو المطبوعة أو الالكترونية المتوفرة في المكتبات ومراكز المعلومات التي يستطيع الباحث الوصول إليها.
- صفات الباحث الناجح :
تتمثل أهم صفات الباحث الناجح فيما يلي (أ) الرغبة: وهي شرط للنجاح في كل عمل وشرط في البحث، فإذا فرض عليك البحث فرضا ضقت به ذرعا وكنت كالمضطهد ويصعب في هذه الحالة أن ينجلي ليلك من نهارك،أما إذا كنت راغبا أنست بعملك ولازمتك خلاله نشوة فبذلة بسب ذلك الجهد .إذن الرغبة شرط ضروري من شروط الباحث الناجح إذ أنها تجعل منه متحمسا دؤوبا على الجمع و التأليف والتحقيق، أما فرض عليه الموضوع فرضا ضاق به ذرعا فلا يحقق الغاية المرجوة منه ،و إذا كان الباحث راغبا بذل قصارى جهده في البحث حتى يحقق الغاية التي من اجلها أقرت الأبحاث .
ولا يعني هذا حجة رخيصة يتوسل بها الطالب الذي يؤثر الراحة فقد يحسب امرؤ انه غير راغب على التوهم أما إذا بدأ وسار قليلا فانه يكتشف حقيقته فيحس بمتعة البحث ويسير ويسير .ثم ان قلة الرغبة لا تكون سببا وجيها للانصراف عن البحث، لأنه أمر لابد منه أما التوفيق ودرجة التوفيق فذلك ما يقدره الأستاذ ويقدره معه الظرف .
(ب) الصبر: لا تنفع الرغبة وحدها لقطع طريق البحث، لان طريق البحث طويلة وشاقة وما أكثر الراغبين الذين ينكصون منذ البداية ،فقد تكون الرغبة الظاهرة نزوة عابرة يجهل صاحبها كنهها . ومن هنا وجب أن يصحب الرغبة الصبر على المكاره والثبات إزاء المعوقات والمثابرة وبذل الجهد والوقت من دون تأفف أو تذمر في الجمع والمناقشة والتأمل حتى بالغ بعضهم فقال ((البحث صبر)).
(ت) التتبع وحب الاطلاع : يجب أن يقترن الصبر بالتتبع وحب الاطلاع على ما قيل ويقال وكتب ويكتب وصدر وما يصدر، فعليه التفتيش في المصادر والمراجع ويقرأ المجلات والدوريات ،لان البحث لا يعتمد عددا محددا من مشهور المصادر، بل لابد من الرجوع إلى كتب أخرى تبدو اقل أهمية ولكنك قد تجد في زواياها ما يمكن أن يجلو غامضا أو يفتح بابا أو يسد طريقا على آخرين .ولا بد للباحث وهو يفتش عن المصادر من الاستقصاء في بحثه فلا يزدري أيا من المصادر لان أضألها وأحقرها لدى النظرة الأولى قد يغدو بعد التحقيق أشدها خطورة وأغناها بالمعلومات والحجر الذي يحتقره البناءون قد يصير رأس الزاوية.
(ث) الحافظة والذاكرة : والحافظة هذه لا تجدي ما لم تؤيدها ذاكرة تمد الباحث بمخزون الحافظة في الوقت المناسب ليستشهد به ويستعرضه ويعود إليه ولا خير يرتجى بان تذكرها منقطعة ،لان الشرط في الأمر أن يربط الباحث بين الأجزاء المتباعدة بما قرأه اليوم و بما قرأه أمس ،ويجمع بين ما رآه في كتاب قديم وما رآه في كتاب جديد وهكذا يستكمل كثير من العناصر .
(ج) القدرة على الترتيب والتصنيف : قد تتوافر الشروط الأنفة الذكر في امرئ على القدر المطلوب، ولكنه إذا تولى البحث قدم مادته مرتبكة لم يميز فيها الأهم من التافه ، ولا من شأنه أن يهمل وما من شأنه أن يقدم أو يؤخر … كأن شيئا يعوزه وإذا نظرت مليا هذا الذي يعوزه المقدرة التنظيمية مقدرة المهندس البارع الحاذق .أن العلم بالشيء وحده لا يكوَن باحثا بالمعنى الحديث، وقد يكون المرء علامة في الأدب؛ أعلامه عصوره شعره نثره مصادره وفي اللغة صرفها فقهها تأريخها …ولكن ذلك لا يعني حتما انه يستطيع أن يكتب بحثا منهجيا ،ولا ينفعه مع علمه ماله من صبر وتتبع وحافظة وانه زاول البحث مرارا انه يبقى حيث هو . والسبب معروف ذلك أن المقدرة على التنظيم أمر لا يستهان به و لا يستغنى عنه ، وما كل امرئ بمستطيع تبويب المادة وتوحيد أجزائها ووضع كل منها في مكانه اللائق بقدره المناسب بعد طرد ما هو تافه وخارج عن الصدد.
(ح) الشك والتثبت : على الباحث أن لا يقبل كل ما يقال إذ كثيرا ما يقال ((سوء الظن من حسن الفطن )) من دون تقليب على الوجوه بل دون ممانعة وشك في صحة ما نسمع أو نرى أو نقرأ، فقد تخدعنا النظرة الأولى وقد يغشى بصرنا بهرج ويلوي بصيرتنا هوى وكثيرا ما علمتنا الحياة أن لوجه وجها.نقرأ الخبر مرة كما هو، ومرة أسوأ مما نراه عليه، ومرة على أحسن ، وفي كل وقفة نطيل التأمل مناقشين ماله وما عليه حتى نبلغ ما نطمئن إليه.
هذا الشك من دون سوء في القصد ،شك نقاد،بناء، لأنه يبقي وجه الحقيقة ولا يقوم على المماحكة أو المغالبة أو المرض النفسي.ومن هنا كانت ضرورته، ويمكن أن نسميه شكا علميا.
(خ) الإنصاف والموضوعية :الإنصاف قرين العدل ،والعدل يقتضي أن نتجرد من الهوى ،وان نحكم بمقتضى الحقيقة. وهو يعنى ألا تقبل على موضوعك بعصبية له أو عليه فتجرفك الأهواء بعيدا عن صميم عملك وعن الحق الذي يشترط أن يكون رائدك؛ فليست البحوث اعملا تقوم عليها العاطفة يشبع بها فلان نهمه أو يرضي فلان نزوته فيرفع من يريد يرفع، ويخفض من يريد أن يخفض. وان البحث أمر يتطلب الإرادة وقوة الإرادة في أن يسيطر المرء على نفسه ويروضها ويرتفع بها عن مستوى الانتقام او المغالطة أو النفاق أو التهريج أو الكسب الحرام .
(د) الأمانة العلمية والضمير : البحث أمانة وضمير والأمانة أن تنقل رأي غيرك في دقة وتنسبه إلى صاحبه، فلا تشويه إذا لم يعجبك ولا تزويق إذا أعجبك ولا تسرق إذا رأيته صالحا فتكون بذلك كأي سارق يصدر عن دناءة ،ولا ينجو من عقاب عاجل أم اجل ولا ينفعك أن تتصرف برأي غيرك وان تغيير صياغته ثم تدعيه لان ذلك إن يخف عليك وعلى آخرين فلن يخفى على الباحثين والناقدين .
(ذ) الجرأة :وهي أن تقول عن الباطل باطل و عن الحق حق غير خائف أو وجل ،ولا يهمك بعد ذلك من ينازعك في أعدائك أو يجتنبك من أصدقائك وليس في البحث صديق أو عدو قدر ما فيه من حق وحقيقة .
فضلا عما ذكرناه من شروط في الباحث المتميز فهناك شروط اغفلناها لضيق الوقت ومنها على سبيل المثال ((العقل الفلسفي )) ويقصد به النظرة الإنسانية إلى ما هو في الماضي والحاضر والمستقبل والى ما هو ابعد أثرا وأطول دواما …ومنها ((الموهبة))وهي الملكة التي يتمتع بها الباحث المنقطع عن الدنيا و ملذتها بالقراءة والجمع والتأليف باستمرار كما تؤدي إلى تفتح مواهبه مما يجعل القارئ إزاء عمل ضخم عميق عملت على شده عوامل كثيرة منها ظاهر معروف كالصبر والمثابرة والجمع المنظم ، وغير منظورة لأنها لا توجد إلا بهذا الباحث الكبير .
المحاضرة السادسة
تطور البحث الأدبي عند العرب
التأليف الأدبي عند العرب
يمكن إرجاع المادة التي يقوم عليها التأليف الأدبي عند العرب إلى ثلاثة عناصر رئيسية هي؛ الشعر والنثر والأخبار. وقد كانت هذه العناصر الثلاثة تنقل في العصر الجاهلي عن طريق الرواية التي شارك فيها خلال ذلك العصر طوائف متعددة من أفراد و جماعات و قبائل، فهناك راو واحد للشاعر إلى جانب رواة قبليين يروون شعر شعراء القبيلة وما يتصل به من مآثر وأخبار .
وعلى الرغم من الأدلة الكثيرة التي تشير إلى تدوين المرويات منذ العصر الجاهلي ،لكننا لا نستطيع عد هذه المرويات المدونة تأليفا أدبيا بمعنى البحث سواء أ كانت كتبا قبلية أم قصائد للشعراء ويمكننا عد هذه المدونات ضربا من المصادر الأولية للتأليف.
وقد ظلت تلك المدونات واستمرت على الحال نفسه طوال القرن الأول الهجري ،حتى إذ ما بدأ القرن الثاني للهجري رأينا حركة علمية منظمة يشارك فيها علماء اللغة والأخبار تهدف إلى تتبع المرويات القديمة وجمعها وإفرادها بمؤلفات منذ أواسط القرن الثاني وقد استمرت هذه الحركة قوية نشطة حتى كثرت المؤلفات الأدبية وتنوعت أصنافها في القرن الثالث وما بعده.
وقد مثلت المؤلفات التي أنتجتها هذه الحركة شكلا أوليا من أشكال التأليف الأدبي ،فمن هذه المؤلفات ما جاء على شكل مجموعات شعرية تتمثل في الدواوين والاختيارات الشعرية وكان بعضها يجمع بين الشعر والأخبار بلا تنسيق .ثم بدا الاتجاه إلى الاختيارات الشعرية منذ أواسط القرن الثاني الهجري، إذ أن أقدم هذه الاختيارات هي المعلقات التي قام بجمعها حماد الراوية (ت156) والمفضليات التي جمعها المفضل الضبي (ت168) ثم تلاهما الأصمعي (ت216)في القرن نفسه فاختار مجموعة أطلق عليها الاصمعيات، وكانت هذه الاختيارات الأولى أساس فكرة الاختيارات الشعرية التي تلتها وعرف بعضا باسم الحماسة .
ثم جاء بعد هذه المرحلة مرحلة أخرى، هي جمع الدواوين الشعرية حيث قام عدد من علماء القرن الثالث الهجري بجمع دواوين الشعراء ،بل منهم من جمع دواوين قبائل كاملة وقد تطورت مرحلة التأليف شيئا فشيئا، إذ قام بعض العلماء بتأليف بعض المصنفات ومنهم ابن الكلبي وابن هشام وأبو عبيدة ومن عاصرهم ففي هذه المؤلفات نجد مادة وافرة من الشعر القديم ممتزجة بمادة وافرة من الأخبار.
ثم أخذت المادة اللغوية تستقل في الحقبة نفسها إذ قصد مؤلفوها إلى جمع اللغات النادرة حينا والمتشابهة أو المتضادة في المعني حينا أخر، وهذه المؤلفات تنسب في تأليفها إلى عالم مشهور إلا أنها في الأصل مجموعة من المدونات المروية عن العلماء كما في النوادر والنقائض .
وإذا ما تقدمنا قليلا نلاحظ أن تطور مرحلة التأليف تطورا ملحوظا حيث أخذت المؤلفات الأدبية تستقل ذلك في مصنفات منها كتاب ((طبقات فحول الشعراء)) لابن سلام الجمحي (ت231) فالكتاب يدل من محتواه على دقة التقسيم وتدوين الآراء النقدية التي بثها فيه .
وأما إذا تخطينا كثرا من المدونات التي تشبه لحد ما كتاب طبقات فحول الشعراء حتى نصل عصر الجاحظ (ت255هـ) فسنجد محاولات أخرى للتأليف المنهجي تظهر في توزيع مواد الكتاب بعنوانات عديدة يحمل بعضها اسم (باب) مما يشر إلى ابتداء التفكير بتقسيم الكتاب داخليا إلى أبواب كما يظهر هذا الالتزام في كتابي ((البيان والتبيين))و((الحيوان))الذي سار فيهما الجاحظ على منهج علمي أكثر تطورا عن الكتب الأنفة الذكر .
ثم ظهرت كتب كثيرة تنحى منحا منهجيا من حيث التقسيم ومن حيث معالجة النصوص ككتاب ((عيون الأخبار)) لابن قتيبة (276) وكتاب ((البديع في نقد الشعر)) لابن المعتز (ت296) وغيرهما .
وهكذا استمرت حركة التأليف حتى أصبحت أكثر دقة من حيث اختيار العنوانات ومن حيث التقسيم الداخلي وعرض المادة ككتاب ((نقد الشعر)) لقدامة بن جعفر(ت337) والموازنة للآمدي (370) و((كتاب الصناعتين))لأبي هلال العسكري (ت395) وغيرها .
ثم ظهرت اتجاهات جديد لم نر مثيلها عالج فيها مؤلفوها الناحية العلمية المهمة من مسائل الكتابة والنقل عن المصادر ككتاب ((التنبيه على حدوث التصحيف))لحمزة الأصفهاني (ت360) وكتاب ((التنبيهات على أغاليط الرواة)) لعلي بن حمزة البصري (ت375) وكتاب ((شرح ما يقع فيه التصحيف والتحريف)) لأبي احمد العسكري (ت382هـ).
خلاصة القول إن حركة التأليف الأدبي عند العرب كانت عملية منظمة بدأت بسيطة ثم تطورت ووصلت إلى درجة النضج ثم تحولت في الحقب المتأخر إلى حركة علمية متكاملة لها أسسها ومبادئها العلمية المرسومة التي يمكن أن تقابل ما وضعه الدارسون المحدثون من كتب في منهج البحث .