ـ العامل العسكري ( البصرة – الكوفة – الموصل )
إن نشأة المدن في العراق ، كانت نتيجة ظروف حملت طابعا عسكريا استدعى معه ايجاد مدن ، تتولى عملية اعداد وتجهيز الجيوش لدرء مخاطر الاعتداءات الخارجية ، فضلا عن تأكيد وتجذير رسالة الدين الجديد ( الاسلام ) ، فكانت البصرة واحدة من المدن التي تولت المهمة .
وقد كانت بدايات العسكرة ، عبارة عن غارات متلاحقة تشنها القبائل العربية على القرى والمعسكرات الساسانية في ارض السواد ، ويبدو ان البصرة كانت تضطلع بدور مهم في حياة شبه الجزيرة العربية قبل الاسلام ، فقد كانت غارات الاعراب في صحرائهم المجاورة متصلة على القرى والحاميات الفارسية ومصالحها في المنطقة ، واتخذت شكلا منظما خاصة بعد النجاح الكبير الذي احرزه بو بكر بن وائل في موقعة ذي قار بحدود ( 611م).(الموسوي ،مصدر سابق ، ص66 )
يجمع المؤرخون على ان تمصير البصرة كان على يد عتبة بن غزوان ، وهو احد قواد عمر بن الخطاب ، فذكروا ان عتبة نزل منطقة البصرة في اربعين وثمانمائة رجلا ، واختطها ” وكانت تسمى ارض الهند ” وقالوا ان عتبة كتب لعمر ” انه لا بد للمسلمين من منزل يشتون به اذا شتوا ويسكنون فيه اذا انصرفوا من غزوهم فأجابه بأن يجمع اصحابه في موضع واحد ويسكن قريبا من الماء والمرعى وان يكتب اليه بصفته ” . (المصدر نفسه ، ص69 )
هذا ، وان نشأة البصرة ، كانت بدواعي عسكرية محضة ، فاريد لهذا المصر ، ان يكون قاعدة تموين وعدة وامداد وظهيرا لحملات تحرير العراق ، فقد تحكمت الضرورات العسكرية في اختيار الموقع وما تلاه من خطط ، وكان هدف العرب اولا هو محاصرة القوات الساسانية ، ومنعها من امداد القوات الفارسية الى الشمال ، والتي كانت تواجه زحف العرب المسلمين على مواقعها .
ويبدو واضحا ان موقعية البصرة تطلبت من الخلفاء والولاة والقادة ان يجعلوها بوابة وحصنا لدرء مخاطر التحرشات العسكرية ، فضلا عن قيمتها الداخلية التي تتمتع بها من خصابة تربتها ، وخيراتها الوافرة ، وسوادها المتلالىء في كثافة نخيلها ، ووفرة مياءها ، واتصالها الطبيعي بمواقع اقليمية .
وفي نفس الاتجاه ، نشئت مدينة الكوفة ، بعد ان كان يتزعمها بعض القبائل العربية ، مثل : قبيلة بني شيبان وغيرها من القبائل الاخرى ، ويذكر ان رئيسها هو المثنى بن حارثة ، وهو قائد عسكري ، كان له دور ايام الخلافة الاسلامية . وكانت هنالك مجموعة من الغارات والمناوشات العسكرية ، تجري باستمرار بين القبائل العربية والفرس ، مما دعا المثنى بن حارثة ، لان يتوسط عند الخليفة ابي بكر الصديق ، ليساعده ويمده بالعدد والعدة ، من اجل صد غارات الساسانيين ، فاستجاب له الخليفة ، وليجعله ايضا واليا على قومه وقبيلته . (انظر : الطبري ، تاريخ الرسل والملوك )
واستمرت الغارات العسكرية بين القبائل العربية والساسانيين ، حتى اصبحت سبيلا لاندلاع حرب تاريخية بين العرب والفرس ، بعد ان اعلن عمر بن الخطاب ذلك صراحة ، فكتب الى عماله قائلا : ” لا تدعوا احدا له سلاح او فرس او نجدة او رأي الا انتخبتموه ثم وجهتموه الى والعجل العجل ” ( المصدر نفسه ، 3/4 ) . وعلى اثر هذا النداء تم تجهيز جيش كبير ، وعهد في قيادته الى سعد ابن ابي وقاص ، فتوجه به الى العراق وحدث ما حدث .
وتعد مدينة الموصل ، من المدن التي كان الغرض من تمصيرها في بادى الامر ، هو تجهيز الجيوش بالعدد والعدة . ويبدو ان لهذه المدينة خصائص معينة اسهمت في انشاء حركة حضرية ، تمثلت بانشاء قرى زراعية مثل : حلف والاريجية وحسونة (الفيل ، د.محمد رشيد ، ص23 ) . وقد نالت الموصل اهتماما من قبل الحكام ، لا سيما في العهد الاموي ، والعباسي ، نظرا لقيمتها الحربية ولبعدها عن القلاقل والمشاكل ، التي تحصل باستمرار في مدن البصرة والكوفة , فكانت هنالك مجموعة من المعسكرات ، التي تم انشاءها للغرض اعلاه ، ولكن اصبحت هذه المعسكرات فيما بعد مدنا للوجستية ، لها صفتها العسكرية والاقتصادية معا .
ـ العامل الإداري (واسط ) مثالا
لقد سجل العراق في حضارته العريقة سبقا تاريخيا وحضريا ، تمظهر بشكل واضح ، وبأدلة وثائقية واثارية في بروز اشكال متنوعة من المدن ، ذات الملامح الوظيفية المتباينة ، مما يؤشر حالة ابداع قل نظيرها في حضارات اخرى، اذ انشأ السومريون اثناء حكمهم الذي تجذر في جنوب العراق ، مدنا ، كانت وظيفتها ادارية ، مثل : الوركاء واور واريدو وسيار وغيرها .
ويشير التاريخ ، الى ان العصور المتتالية في العراق ، اشرت واقعا مدينا متطورا من الناحية الادارية ، وعصر مثل العصر الاسلامي ، كان شاهدا على بروز هذا النوع من المدن ، ويذكر بعد ان استكملت العمليات العسكرية ، التي قام بها المسلمون في العراق ، جاء دور التنظيم الاداري ، من تنظيم شؤون الدولة ورعاية مصالح الناس .
وبعد مجيء الامام علي بن ابي طالب الى الكوفة ، وتوليه ادارتها ، وسوس رعيتها سنة 36هـ ، قام بالحاق البصرة والموصل بالكوفة ، وجعلها تحت ادارة واحدة ، لكن هذا الحال لم يستمر طويلا ، اذ قام معاوية بن ابي سفيان بنقل تبعية الموصل الى دمشق ، وبعد استشهاد الامام علي ، اصبح العراق جميعه تحت طائلة الحكم الاموي ، ومن هنا توالت سلسلة من الامراء والحكام الموالين للعائلة الاموية ، الى ان جاء الحجاج بن يوسف الثقفي ، ليصبح واليا على العراق ، وكان السبب من تعينه هو ان يقضي على المشاكل والاضطرابات التي تحصل في الكوفة والبصرة ، واثناء تنقل الحجاج بين ادارتي البصرة والكوفة ، ارتأى ان يكون هنالك مكانا وسطا بين المدينتين المذكورتين اعلاه ، ليكون مقرا له ، فوقع اختياره على مدينة واسط .
اذا ، العامل الاداري ، يتضح في اختيار موضع ليكون وسطا بين الكوفة والبصرة ، وقد اشار الى ذلك المؤرخ يحشل قائلا : ” وقال الحجاج اتخذ مدينة بين المدينتين (يعني الكوفة والبصرة ) تكون بالقرب منهما ، اخاف ان يحدث في احد المدينتين حدث وانا في المصر الاخر فمر بواسط القصب فاعجبته ، فقال هذا واسط المصرين ” ( نقلا : عن الموسوي ، مصدر سابق ، 115 )
وبهذا اصبحت واسط مدينة ، تميزت بصفتها الادارية ، فضلا عن كونها شهدت حركة حضرية واضحة ، لاسيما في تطور الزراعة والتجارة فيها ، لتضاف الى تاريخ العراق الحافل بتطور مراكزه الحضرية .
العامل السياسي ( بغداد ، سامراء ) نماذج
ان من ابداعات التركز الحضري في العراق القديم ، ان ظهرت ممارسات سياسية واضحة بين الحاكم والمحكوم ، الى جانب ظهور اشكال متنوعة من تداول للسلطة . ومما يدلل على ظهور الفكر السياسي ، هو العثور على مفردات تؤشر ما قلناه ، اذ يذكر كريمر مفاهيم تتعلق بالملك والسلطة مثل : ” السيادة ، والتاج الممجد الخالد ، وعرش الملكية والصولجان الممجد ، والشارة الملكية ، والملكية ” . ( كريمر ، صموئيل نوح ، ص154 )
ويذكر ايضا ، ان الملكية تعد المثال الواضح للسلطة في العراق القديم ، وقد عبر عنها بلغة اهل الديار القدامى لا سيما السومريون مثل : ( نام ـ لوكال ) ما يناظرها (NAM – LUGAL ) وترادفها في اللغة الاكدية (شراتو) يناظرها (SARRUTU ) ، مما يدلل ذلك على ظهور السلطة في العراق القديم ، ووجود لها فاعلون سياسيون يسوسون الناس (القيسي ، د.محمد فهد ، ص16 ) .
والمغزى من هذه الاشارة العابرة عن السلطة ، هو ان المراكز الحضرية في العراق القديم ، كانت عامرة بمؤسساتها ، التي هي اليوم خصيصة من خصائص المجتمع الحضري الحديث ، فضلا عن ذلك ، فان المعنى اعلاه يوحي لنا عن طبيعة بناء القوة في المجتمعات القديمة ، اذ كانت السلطة من نسج الكهنة ، الذين يتمتعون باعلى سلطة الهرم السياسي / المديني في العراق القديم ، لكن ذلك ، لا يعني ان السومريين لم يقطعوا شوطا معرفيا في العقلية السياسية ، بل يذكر ان هنالك فصلا في السلطة حصل قديما ، وتم فك الارتباط مابين السلطة الدينية والسلطة السياسية .
فدعت الحاجة الى انفصال السلطتين اعلاه ، عن طريق ابتكار لقب جديد هو ـ كما اسلفنا ـ (لوكال) وخاصيته انه يطلق على الحكام المستقلين ، او على الملوك الذين يسوسون العباد والبلاد في اكثر من مدينة (رو، جورج ،العراق القديم ،ص187) . والحديث طويل حول تطور المؤسسة السياسية في المدينة العراقية القديمة ، ولا مجال لذكرها تفصيلا ، دون الاشارة الى حيوية المراكز الحضرية كالوركاء واريدو ، وحتى اكاد ايام الاكدين ، وبابل ، بصفتها حاضنة للسيرورات السياسية .
وانتقالة الى العصور اللاحقة ، فاننا سنجد ، والى حد ما تبلور لفكرة المدينة السياسية ، لا سيما في العصر الاسلامي ، وتحديدا في اثناء حكم الخلفاء الراشدين ، والحكم الاموي ، والحكم العباسي ، اذ كان هناك تشكيلا حضريا واضح المعالم رسمه الحكام لمدن ادارت دفة العالم كله ، تلك هي المدن ( بغداد ، سامراء ) . فقد اسس العباسيون مدينة بغداد ، اعتقادا منهم ، بان مدينة دمشق لا تصلح ان تكون عاصمة لهم ، بسبب تواجد قبيلة بني امية ومناصريهم ، الذين بلا شك لا يسمحون بامة حكم ودولة مغايرة لهم .
وقد تعصبوا بني العباس لمدينة بغداد ، الى حد اخضاع كل الرعية في كل مكان يقع ايديهم عليه لسلطانهم ، ويذكر اليعقوبي ، ان المنصور (احد خلفاء بني العباس ) وصف بغداد بانها : ” مشرعة للدنيا كل ما يأتي في دجلة من واسط والبصرة والابلة والاحواز وفارس واليمامة والبحرين وما يتصل بذلك فإبلها ترقي وبها ترسي ، وكذلك ما يأتي من الموصل وديار ربيعة واذربيجان وارمينة مما يحمل في السفن بدجلة ، وما يأتي من ديار مصر والرقة والشام والثغر ومصر والمغرب مما يحمل في السفن بالفرات فيها يحط وينزل ، ومدرجة اهل الجيل وكور خراسان ” ( اليعقوبي ، ص237 – 238 ) . ولم يكن اختيار بغداد من قبل العباسيين جاء اعتباطا ، وانما ثمة خصائص مميزة للمدينة دفعتهم لاختيارها في زعامة المعمورة . فقد كانت بغداد عندما وقع اختيار المنصور عليها سهلا فيضيا ، ترويه شبكة من قنوات الري العامرة ، ولعلها كانت في اوج تنظيمها انذاك ، ورغم وقوعها على دجلة ، فأنها كانت ترتوي من الفرات . وكان يروي الجانب الغربي للمدينة نهر واسع يتفرع من الجانب الايسر للفرات شمال الفلوجة ، ويصب في دجلة جنوب بغداد الحالية عند تلول خشم الدورة على طريق بغداد ـ المحمودية ، وقد سمي في العصر العباسي بنهر عيسى الاعظم ( الهيتي ، صالح فليح حسن ، ص42) . وبناءً على هذه الخصائص الايكولوجية ، فقد بدأ المنصور بأنشائها في اوائل شهر اب اغسطس سنة (762) م ، وكان المنصور قد اقطع القواد والجنود ورجال الدولة قطائع ، وسوقة الناس واهل البلدان ، واوعز ان يبنوا في جميع الارباض (الربض: تقسيم هندسي للمدينة ) ، بمعنى ان استخدامات الارض في المدينة اصبحت خاضعة لاعتبارات اجتماعية وثقافية ، وهذا ما يدلل عليه توزيع الافراد في المدينة حسب رتبهم الاجتماعية (المصدر نفسه ، ص47 ) . وهكذا نمت مدينة بغداد في العصر العباسي بشكل يدعو الى وصفها بانها مدينة لا تدانيها مدينة في فخامة عمرانها وحجم مساحتها وكثافة سكانها ، وهي الخصائص الحضرية الواضحة التي يقل توافرها في مدينة اخرى ( للمزيد ينظر : سوسه ، د. احمد وآخرون ، ص 78 ) .
والمتتبع لمسيرة بغداد التطورية ، سيجد انها مرت بأكثر من مرحلة مورفولوجية ، وفي كل مرحلة يختلف تصميم المدينة ، اذ يلحظ عدة تحسينات ومعالجات حضرية رافقت خلافة المدينة ، لذا فأن الباحثين يذهبون الى تصنيف بغداد الى مراحل متعددة ، نجملها هنا في جدول توضيحي :
النشأة
المرحلة |
خلافة مختلفة
السنة
|
الأولى | 762م ـ 1869 |
الثانية | 1869ـ 1920 |
الثالثة | 1920 ـ 1936 |
الرابعة | 1936 ـ 1956 |
الخامسة | 1956 حتى الوقت الحاضر |
جدول (1) جرى تصميمه من قبل الباحث ، اما السنوات فقد أخذناها من المصدر التالي : (الاشعب ،د.خالص ، ص26) .
ويُنظر ان لكل مرحلة من المراحل اعلاه ، فترات متعاقبة من الادارة السياسية ، لذا فقد رصدت مراحل فرعية اخرى ، جديرة بالاهتمام ، نظرا لما يعكسه ذلك من اثر على بناء ووظيفة ومورفولوجية مدينة بغداد ، وتبدو ذورة الانشطار في تعدد المراحل الفرعية ، في المرحلة الاولى ، التي مثلت قمة الحركية السياسية ، وتفاقم الازمات الطائفية والاقتصادية ، ولتوضيح ذلك ، نأتي على ذكر الجدول التالي :
طبيعة من يحكم
المرحلة |
خلافة مختلفة
السنة
|
المرحلة العباسية الاولى | 762م ـ 946 |
المرحلة البويهية | 946ـ 1055 |
المرحلة السلجوقية | 1055ـ 1152 |
المرحلة العباسية الاخيرة | 1152ـ 1258 |
المرحلة الالخانية | 1258ـ 1338 |
المرحلة الجلائرية | 1328ـ 1411 |
الفترة المظلمة | 1411ـ 1638 |
الفترة العثمانية الاولى | 1638ـ 1869 |
جدول (2) جرى تصميمه من قبل الباحث ، اما السنوات فقد أخذناها من المصدر التالي : (المصدر نفسه ، ص28) .
لاشك ، ان الجدول اعلاه ، يطالعنا ببيانات تدلل ان بغداد حكمت في كل مرحلة من المراحل الثمان من قبل حاكم مختلفة ، ولهذا فان الحياة الاجتماعية والاقتصادية لبغداد ، تأثرت باحداث كل من هذه المراحل او الفترات ، سواء كانت الاحداث طبيعية اوبشرية ، فهي اثرت في بنية المدينة نمطا وتخطيطا (مصدر سابق ، ص28 ـ 29 ) .
وتجدر الإشارة هنا ، الى ان اللعبة السياسية في العراق ، استحكمت بشكل كبير في تحديد معالم بغداد ، ويبدو ذلك واضحا في المرحلة الثانية من تطور المدينة ، والذي امتد سنة (1869 ـ 1920 ) ، اذ لوحظ ان تطور بغداد امتد في هذه المرحلة (51 ) سنة ، وانه امتاز بكونه اما تدريجي ، او فجائي ، والنوع الاول كما يؤشر له ، اخذ وقتا اطول في التطور على عكس الحال في النوع الثاني ، والسبب كما يوضحه الاشعب ، يعود الى نوعية الحاكم ، حيث كان الحكام أحرارا في اتخاذ أي قرار ، فاذا ما صادف لهؤلاء الحكام احتكاك مع الغرب فانه ينعكس على بعض قراراته التخطيطية.(المصدر نفسه ، ص32ـ 33) . هذا ويؤشر في جزء من تلك الفترة أي (1869ـ 1871 ) الى تطور ملحوظ في بنية بغداد وحضريتها ، يعود فيه السبق الى مدحت باشا ، الذي ادخل بعض منجزات الحضارة ، ووضع بغداد على أعتاب مراحل تطورها المعاصر ، ويمكن اعتبار هذه المرحلة الانتقالية ـ كما أشار الاشعب ـ بين فترة القرون الوسطى والفترة المعاصرة ، فتمثلت اجراءات مدحت باشا التطورية بإصداره قانون تسجيل الاراضي (الطابو) (المصدر نفسه،ص33) . لكن هذا الحسنات لم تدم ، نتيجة احتكاك العثمانيون مع الانكليز ، وما لحق ببغداد من خراب اثر احتلالها من قبل الانكليز (1914) ، تم من خلالها ايضا تهديم باب الطلسم الى جانب تهديم بعض اجزاء سور بغداد للاستفادة من مواد بنائه ( الطابوق ) لبناء بعض المنشات الحديثة (المصدر نفسه ، ص34 ) .
وحسبنا الاستطراد في هذا الجانب ، لنشير الى خلاصة هذه المرحلة التطورية ، والتراجعية في حدود معينة ، الى انها يمكن اعتبارها الأكثر رقيا من المرحلة السابقة ، الا انها افتقرت الى الاستقلال والتنسيق الوظيفيين بالنسبة لتوزيع استخدامات الأرض ، إضافة الى ذلك ، فان هذه المرحلة أشرت دور الحكام والاحتلال معا في بلورة شكل مدينة بغداد ، حتى يمكن القول عندئذ : بغداد رهينة الساسة والسياسة .
اما المرحلة الثالثة التي امتدت سنة (1920ـ1936) من تطور بغداد ، فانها مثلت الجانب الاكثر تطورا من المرحلتين السابقتين ، اذ اصبحت بغداد مدينة مركزية ، تتجمع فيها مختلف الانشطة الاجتماعية والاقتصادية والحضارية ، الى جانب انها تمثل قمة الصراع السياسي على مراكز القوة ، كما ازداد في هذه المرحلة عدد الممثليات البلوماسية ، حتى وصل عددها في حينها الى (14) . وقد ترك التأثير الخارجي متمثلا بالاحتلال الانكليزي بصمته الواضحة في جوانب معينة ، كتلك التي شهدتها بعض ابنية بغداد ، اذ يذكر ان حوالي (40) الف جندي بريطاني دخلوا العراق وزادوا من تطور البناء في بغداد كالبتاوين والعلوية والوزيرية والصالحية . وهنالك فضلا عما سبق ظهور منجزات الحضارة الحديثة كادخال نظام التلفونات الى بغداد سنة (1922) وانشاء الشوارع المستقيمة ، مثل شارع الرشيد ، ومظاهر حضرية اخرى لا مجال لذكرها جميعا هنا ( المصدر نفسه ، ص39 وما بعدها ) . وفي المرحلة الرابعة التي امتدت سنة (1936ـ 1956 ) ازداد حجم التطور في بغداد ، وظهرت طرز جديدة من البناء ، شكلت نمطين ، الاول ظهور البيت العربي المسقف ، الذي ظهر في المدة (1936 ـ 1945 ) ، والثاني ، البيت الغربي او شبه الغربي ، الذي ظهر في المدة (1945 ـ 1956 ) ، مما يدلل على دور الاحتكاك الحضاري ، لا سيما بانشاء النمط الثاني من البيوت . اما المرحلة الاخيرة والتي امتدت سنة (1956 ) والى وقتنا الحضاري ، فانها بلا شك جاءت بحلة جديدة ظهرت من خلالها بغداد بشكل اكثر تمايزا عن السابق ، اذ وضعت للمدينة تصاميم جديدة للتخطيط ، كالتصميم الذي اعدته (شركة مينو بريو الانكليزية ) سنة 1956 ، على اساس ان طاقة بغداد الاستيعابية ستصل الى (1,5 ) مليون نسمة خلال خمسين سنة ، واقترح ان تكون مدينة دائرية بقطر يصل الى (18)كم ، محاطة بحزام اخضر ، وتوالت التصماميم في سنوات لاحقة مما يعطي انطباعا بنية تطوير بغداد حضريا ، اذ وضع تصميم اعدته شركة (دوكسيادس ) 1959 ، ينظر لمدينة بغداد على اساس طاقتها الاستيعابية ايضا التي ستصل الى (3) ملايين نسمة بعد عشرين سنة ، واقترح في هذا السياق ان تكون المدينة بهيئة هندسية مستطيلة وبأبعاد (13×18)كلم ، واضافة الى هذه التصاميم فقد وضعت تصاميم اخرى من شركات عالمية ، كالتصميم الذي طرحته شركة (بول سيرفس البولندية ) ، اذ تخطط بغداد على اساس ان طاقتها الاستعابية ستبلغ (3,2 )ملايين نسمة سنة 1990 ، وضمن حدود ادارية تصل الى (863,4)كلم 2 ، ولكن هذا لم يبقى على حاله ، بل عدل بموجب التصميم الانمائي الشامل لتستوعب (4,3 ) ملايين نسمة في سنة 2000 ، وايضا على اساس ان معدل الزيادة السنوية سينخفض حتى سنة 2000 ، ليصل الى ما يتراوح بين (2,2) و (2,5 ) في المائة ، وان معدل الهجرة الريفية سينخفض من ( 2) الى (1,2 ) ثم الى (1,5 ) في المائة (نقلا عن : الانصاري ، د. باسم ، ص11) .
بعد هذا العرض الموجز ، لنمو وتطور بغداد ، يتضح جليا ان بغداد منذ باكورة ظهورها في العصر العباسي وحتى يومنا هذا كانت مدينة مركزية للصراع السياسي وادارة شؤون الناس ، الى جانب وهذا ما يميزها انها مركز للخدمات والانشطة الحضرية .
بعد ان فرغنا من بيان طبيعة بغداد السياسية والاجتماعية والاقتصادية ، ناتي هنا الى بيان دور مدينة سامراء في العراق والمعمورة جميعا . فمدينة سامراء ارتبط اسمها بالخليفة المعتصم بالله * ، فهو كان مؤسسها ، او بالأحرى مكتشفها ، اذا ما نظرنا الى مكانة سامراء مقارنة بالمدن الاخرى في ايامه ، وما بلغته تلك المدينة من حضرية نستطيع ان نستجلي خصائصها ، اذا ما أمعنا النظر في تاريخ المدينة مكانا وعمرانا وزهوا ، شهده القاصي والداني ، ولمعرفة مخاض الاكتشاف الحضري لسامراء ، فلا بد من ذكر دواعي الاختيار من قبل المعتصم بالله لهذه المدينة .
فيقال : ان المعتصم بالله ، خرج الى القاطول وهو (اسم نهر كان في موضع سامراء قبل ان تعمر ) في النصف من ذي القعدة سنة 220 ، فاختط موضع المدينة التي بناها ، واقطع الناس المقاطع ، وجدّ في البناء حتى بنى الناس القصور والدور ، وقامت الاسواق ، ثم ارتحل من القاطول الى سر من رأى ، فوقف في الموضع الذي فيه دار العامة ، وهناك دير للنصارى ، فأشترى من اهل الدير الارض ، واختطّ فيه ، وصار الى موضع القصر المعروف بالجوسق على دجلة ، فبنى هناك عدة قصور للقوّاد والكتاب وسمّاها باسمائهم ، وحفر الانهار في شرقي دجلة وعمر العمارات ، ونصبت الدواليب والدوالي على الانهار …(اليعقوبي ، ص332 ). ولعل ولع المعتصم بفن العمارة كان سببا لاعمار سامراء ، فيرى في العمارة امورا محمودة ، فأولها عمران الارض التي يحيا بها العالم ، وعليها يزكو (ينمو ، يزيد) الخراج وتكثر الاموال ، وتعيش البهائم ، وترخص الاسعار ، ويكثر الكسب ، ويتسع المعاش ، وكان يقول لوزيره محمد بن عبد الملك : إذا وجدت موضعا متى انفقت فيه عشرة دراهم جاءني بعد سنة احد عشر درهما فلا تؤامرني فيه ،أي لا تطلب أمرا مني ، لا تشاورني كي اصدر أمرا ( المسعودي ، ص 54 ) . ويذكر المؤرخون ، ان البحث عن موضع جديد ، ليصبح عاصمة سياسية وادارية ، كان هاجسا تولد لدى المعتصم بالله ، وهو يتساءل عن امكانية ايجاد بقعة جغرافية تصلح ان تكون عاصمة . ويؤكد هذا ما نقله المسعودي في كتابه مروج الذهب ، موردا : ان المعتصم تأذى من الموضع الذي كان فيه سابقا ، ليخرج يتقرّى المواضع ، فانتهى الى موضع سامرا ، وكان هناك للنصارى دير عاديُّ ، فسأل بعض اهل الير عن اسم الموضع ، فقال : يعرف بسامرا ، قال له المعتصم : وما معنى سامرا ؟ قال : نجدها في الكتب السالفة والامم الماضية انها مدينة سام بن نوح ، قال له المعتصم ومن أي بلاد هي ؟ وإِلام تضاف ؟ قال : من بلاد طبرهان ، واليها تضاف ، فنظر المعتصم الى فضاء واسع تسافر فيه الابصار ، وهواء طيب ، وارض صحيحة ، فاستمرأها (استطاب هواءها ) ، وأقام هنالك ثلاثا يتصد في كل يوم ، فوجد نفسه تتوقُ الى الغذاء ، وتطلب الزيادة على العادة الجارية ، فعلم ان ذلك لتأثير الهواء والتربة والماء ، فلما استطاب الموضع دعا بأهل الدير فاشترى منهم ارضهم بأربعة آلاف دينار ، وارتاد لبناء قصره موضعا فيها ، فأسس بنيانه ، وهو الموضع المعروف بالوزيرية بسُرَّ من رأى .. فارتفع البنيان ، واحضر له الفَعَلة والصناعة ، واهل المهن من سائر الامصار ، ونقل اليها من سائر البقاع انواع الغروس والاشجار ، فجعل للاتراك قطائع متحيزة ، وجاورهم بالفراعنة والاشروسية وغيرهم من مدن خراسان على قدر قربهم منهم في بلادهم واقطع اشناس التركي واصحابه من الاتراك الموضع المعروف بكرخ سامرا ، ومن الفراعنة مَنْ انزلهم الموضع المعروف بالعمري والجسر واختطت الخطط ، واقتطعت القطائع والشوارع والدروب ، وافرد اهل كل صنعة بسوق ، وكذلك التجار ، فبنى الناس ، وارتفع البناء ، وشيدت الدور والقصور ، وكثرت العمارة …(المصدر نفسه ، ص62 ) .
إذاَ ، مدينة سامرا او (سُر من رأى ) حضرية المعالم ، وهذا ما نستظهره على الاقل من إجراءات المعتصم في إفراده أهل كل صنعة بسوق ، بمعنى تقسيم العمل الاقتصادي الى حرف ومهن تختص كل منها بفن معين ، وقيامه ببناء عدة قصور للطبقات الاجتماعية المعروفة آنذاك كالقواد والكتاب وسماها بأسمائهم ، وهو ما يعكس عمليا مبدأ تقسيم العمل الاجتماعي ، وبهذه الخصائص المختارة فان سامراء بحق مكانا حضريا تنطبق عليه بعض الخصائص التي أُشير اليها في فصول سابقة . فالمدن العراقية القديمة ، شهدت حركة حضرية واضحة ، وهو ما جعلها تتربع على سيادة العالم وأصبحت عندئذ ملاذا ومكانا يقصده الرحالة والعلماء من كل حدب وصوب . وهكذا فان العوامل التي اسهمت في نشأة المدينة العراقية متنوعة وعديدة ، وقد أخذنا العامل العسكري ، وكيف رأينا تأثيره في إنشاء أماكن او ولايات ذات صفة إقليمية واسعة ، اما العامل الإداري ، فانه اثر بشكل واضح في اختيار مدينة واسط ، بل انه العامل الأساسي في اكتشاف تلك المدينة ، وأخيرا ، ذكرنا العامل السياسي ، في اختيار بغداد وسامراء كعواصم عالمية ، ولا يخفى على القارئ إننا تناولنا ، او اشرنا إشارات هنا وهناك ، تتحدث عن طبيعة الظروف الاقتصادية ، مما لم يفرد لها محورا خاصا ، إضافة الى ذلك ، فإننا اختصرنا في حديثنا على العوامل أعلاه ، دون ذكر لعوامل أخرى ، قد لا تقل شأنا ، لكننا أردنا فقط إحاطة الدارس بأثر العوامل ، دون ذكر المزيد منها .