لقد ساد على مدى القرون الاعتقاد بأن التمايزات الاجتماعية والأدوار المختلفة للنساء والرجال هي اختلافات طبيعية لا تتغير، وأنها محددة بالاختلافات البيولوجية.وكانت هذه المميزات و الصفات تتتضمن أفكارا وقيما عما يخص الذكر وما يخص الأنثى (مثل كون المرأة عاطفية والرجل عقلاني)، كما تتضمن مجموعة من الصور النمطية والمواقف والسلوكات الخاصة بالرجل وبالمرأة ( المرأة تغسل الأواني والرجل يقوم بتشغيل الآلات).
هذا وأظهر البحث في الثقافات المختلفة أن معظم تلك المميزات المفترضة قد تمت صياغتها وبناؤها من خلال العوائد والممارسات الاجتماعية أكثر من كونها مميزات محددة مسبقا بفعل الطبيعة وهذا ما دعى الأبحاث والدراسات إلى إقامة الفصل المميز بين الجنس البيولوجي و الجنس الاجتماعي الذي يقابله بالأنجليزية gender و بالفرنسية genre، وهو مفهوم يشير إلى الخاصية الثقافية والاجتماعية ،التي تتميز بها الفروق القائمة على الجنس.
المحور الأول : مفهوم النوع الاجتماعي:
استخدم هذا المفهوم لأول مرة من طرف آن اوكلي ann oakly سنة 1972 بالمعنى التالي :” تحيل كلمة جنس على الفوارق البيولوجية بين الذكور والإناث، وإلى الفرق الظاهر بين الأعضاء الجنسية، وكدا إلى الفروق في ارتباطها بوظيفىة الإنجاب. أما النوع فإنه معطى ثقافي، فهو يحيل إلى التصنيف الإجتماعي وترتيبه للمذكر والمؤنث”.
ينسب الجندر إلى اللغة الأنجليزية gender التي تترجم بالنوع الاجتماعي وهي بالأساس مقولة ثقافية وسياسية تختلف عن الجنس sex باعتباره معطى بيولوجيا ، وتعني الأدوار والاختلافات التي تقررها وتبنيها المجتمعات لكل من الرجل والمرأة. والبحث في الجندر يمكننا من تعويض الماهوية البيولوجية بالبنائية الثقافية، بحيث يتبين لنا بأن الاختلاف بين الرجل والمرأة مبني ثقافيا وايديولوجيا وليس نتيجة حتمية بيولوجية. ثم إن هذا المفهوم أداة فعل في الواقع وبحث في مجالات التنمية من حيث التقسيم الاجتماعي للأدوار.
لقد كان الغرض الأول من طرح إشكالية النوع هو تحرير العقول والأفهام من المسبقات والتنميطات العالقة حول الجنسين، وتجاوز الاختلافات الفسيولوجية التي حددتها الطبيعة، ثم السمو بالعلاقات بين الرجال والنساء إلى مستوى حضاري من التعقل ينزع عن الجنسين تلك الحدود التي سكّت في أطر مجمدة وسلوكات محددة لمن هو ذكر ولمن هي أنثى. وعليه صار من المتعين التمييز بين الطبيعي والثقافي في العلاقات بين الجنسين. والواقع أن هذا التمييز يقتضي الوقوف على ما هو طبيعي أي الفارق الجنسي بين المرأة والرجل، وبين الفوارق الثقافية والحضارية التي يبنى عليها تمثل وتقبل علاقات اجتماعية ذات معنى بين الرجال والنساء، أي علاقات النوع.
وهكذا أّدّى التمييز بين مفهومي الجنس والنوع إلى وضع أداة تحليلية مفيدة في توضيح الأفكار والعناصر المتعلقة بكل منهما، وعملا بهذا التمييز نجد أن الجنس يتعلق بالشروط البيولوجية والفزيولوجية ( أي الأعضاء التناسلية الخارجية والداخلية والهرمونات والسمات الجنسية الأخرى…) وتؤدي هذه الشروط مجتمعة إلى تحديد الجنس من حيث الأنوثة والذكورة، في حين تؤدي جملة من العوامل والشروط الأخرى تاريخية، ثقافية، اجتماعية، سيكولوجية، النوع الاجتماعي الذي تتحدد من خلاله الأدوار الذكورية والأنثوية التي تتلون بالمدركات الاجتماعية والثقافية.
هذا التمييز أصبح يحظى بنوع من التبني على صعيد كوني ، بل أبان عن إجرائية لا ريب فيها. ومنذ ذلك صارت الأبحاث تستخدم مصطلح “النوع الاجتماعي” لوصف مميزات محددة اجتماعيا للرجال والنساء ومصطلح الجنس للإشارة إلى المميزات المحددة بيولوجيا وهي تتمثل في المقام الأول في قدرة الرجال على الإخصاب وقدرة النساء على الحمل والولادة، فمفهوم الجنس يبقى بيولوجيا يشير إلى معطيات الولادة، غير قابل للتغيير، الرجال فيه يخصبون والنساء تلدن. أما النوع فهو معطى ثقافي، يلقن بالتنشئة، قابل للتغيير، ويشير إلى الأدوار الإجتماعية التي يمكن أن يتساوى فيها كلا الجنسين.
وبناء عليه يمكن استنتاج المعطيات التالية:
+ يحدد الجنس الفروق البيولوجية بين النساء والرجال بينما يحدد النوع الاجتماعي العلاقة بينهم.
+ لا يشير النوع الاجتماعي إلى النساء كما أنه لا يشير إلى الرجال، وإنما إلى العلاقة القائمة بين الجنسين، وكدا إلى الطرق التي تتشكل بها هذه العلاقة.
+ تتحدد علاقات النوع الاجتماعي بالعوامل الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وغيرها، كما تتأثر بتغير هذه العوامل.
+ كل ثقافة تحمل ايديولوجية تخص النوع الاجتماعي، وتحدد سلوكات الرجال والنساء، وتقوم بتقسيم الحقوق والمسؤوليات والموارد والأدوار فيما بينها.
+ تقوم التنشئة الاجتماعية بتقديم الأدوار الاجتماعية المختلفة وتعمل على تلقينها ولو بشكل ضمني أو معلن.
ويمكن أن نستخلص من هذه المعطيات أن النوع هو المعنى الحضاري الذي تضفيه الثقافات على الجنس، أما الغرض من طرح إشكالية النوع، فهو القيام باستراتيجية التفكيك التي ترمي إلى تحرير العقول والأذهان مما علق بها من مسبقات وتصورات قائمة على نمطيات جنسية، تربط خصائص محددة بمن هو ذكر وبمن هي أنثى. وهكذا نستطيع القول أن النوع الاجتماعي هو التمييز الثقافي للذكر على الأنثى ، وأن جذوره تمتد بالأساس إلى الثقافة وليس الطبيعة. كما أن الهندسة الاجتماعية تعمل على جعل شروط الحياة اليومية لكل من المرأة والرجل، والمكانة التي يحتلانها في المجتمع تظل على نحو ما راسخة في سياق اجتماعي وثقافي وسياسي واقتصادي محدد، وفي ظل مؤسسات وعلاقات اجتماعية معينة.
المحور الثاني : نظريات النوع الاجتماعي
1- النظرية البيولوجية:
ينطلق أصحـــاب هذه النظرية من فكرة أساسية مفادها أن التكوين البيولوجي هو المسئول عن الفروقات الفطرية في سلوك الرجــال والنساء مثل الهرمونات والكروموزومات وحـجم
الدماغ والمؤثرات الجينية ويضيــف هؤلاء أنه يمكن ملاحظة هذه الاختـــلافات في جمـيع الثقافات، مما يعني أن ثمة عوامل طبيعية تؤدي إلى اللامساواة بين الجنسـيـن في جميـــــــع المجتمعات تقريبا. وذلك يعني أن الرجال بحكم تركيبهم البيولوجي يتفوقون على النسـاء في نزعتهم العدوانية ، ومن ثمة يتم النظر إلــــى المرأة ، كجسد ذو بنية فيزيولوجية هشة، غير قادر على مقاومة الجسم الذكوري في مختلف المجــــالات، خاصة المرتبطة منها بالأعمـال الشاقة، بل أن بنيتها الفيزيولوجية تخول لها الإرتباط بالجانب العاطفي خاصة المرتبط منه بتربية الأطفال والعناية بهم، لتكون بذلك الفروق البيولــوجية حسب هذه النظرية أســــــاسـا لتشكيل الهوية الجنسانية. ومن هنا فالنظرية البيولوجية في مقاربة النوع ترجع أصـل الفروق بين الجنسين إلى الاختلافات البيولوجية بين الذكور والإناث.
2- نظرية البناء الاجتماعي:
حاول علمـــــاء الاجتمـــاع تجاوز الطرحيــن السالفي الذكر عبر تعديــــــلهما، فبدلا من أن ينظروا إلى الجنس باعتباره نتاجا بيولوجيا وإلى النوع باعتبارها نتاجا للتنشئة الاجتمــاعية، اعتبروا أن الجنس والنوع هما نتـــــاج أعيد بناؤه وتصوره اجتمـــاعيا ولا يتعلق الأمر هنا بالجانب الاجتمــــاعي والثقــــافي بل حتى الجسم نفسه فهو يتعرض لقوى اجتماعية وثقافية تعدله، فالجسم قد يعطيه أصحـــــابه دلالات تتجاوز الأطر الطبيـــــعية إذ بوسع الأفراد بناء أجسامهم كما يشاؤون سواء بإجراء التمارين الريــــاضية ، أو إتبــــاع نظام غذائي معين أو بثقب شحمة الأذن كما يفعل البعض أو بإجراء جراحة تجميلية أو جراحة لتغيير الجنس .
3- النظرية الوظيفية:
تنظر النظرية الوظيفية إلى المجــتمع باعتبـــاره نسقــــا من الأجــــزاء المترابــــطة التي تشتغل كنسق وكمنظومات متتالية الأطراف والمكـونات والتي تعمل من أجل توليد التضامن والتوازن والاستقرار للنسق العام ولتحقيق التكامل الاجتماعي 15 ، ومن ثمة فإن الوظيـــفية كخطاب ينظر إلى أن الاختلافات الجنـوسية تسهم في التكامل والتضــــامن الاجتمـــــاعيين. ويميل أصحاب هذا الاتجاه إلى الاعتقاد أن تقســــيم العمل بين الجنسين يقوم على أســـاس بيولوجي. فالرجال والنساء يقومون بالوظائف التي يصلحون لها بيولــوجيا، ومن هنا يــرى الوظيفي جورج ميردوك بأن العمل البيتي خاص بالنسـاء، أما العمل البرانـــي الإنتاجي فهو خاص بالرجال ، ويعتبر أن تقسيـــم العمل بين الجنسين هو نتيجة منطـــقية لتنظيم المجتمع أكثر مما هو مرتبط بالبرمجة البيــــولووجية، في حيــن اعتبر تالكوت بارسونز أن العـــائلة المستقرة تدعم أطفـــالها من أجل ضمــــان تنشئة اجتمـاعية ناجحة لهؤلاء الأطفــــال. وهذه العـــائــلات المستقرة هي التي يقسم فيها العمـــل بين الجنسين بطريقة واضحة بحيث تؤدي الإناث أدوارا تعبيرية توفر العنــاية والأمن للأطفــــال وتقدم لهم الدعم العاطفي. أما الرجل فيقوم بأدوار الإنتـــــاج وإعـــالة الأسرة ماديا بالعمل البراني الذي يتعرض فيه لصعوبــات ومشاكل تكون فيها النزعة التعبــيرية الأنثوية بمثابة المهدئ الذي يفرج عن الرجل ويخــلق راحته السيكولوجية والبيولـــوجية وهذا في نظره تقسيم تكاملي للعمل يؤدي إلى الاستقــرار الميكروسوسيولوجي كنسق فرعي والذي هو أساس الاستقرار الماكرو سوسيـــــولوجــي أو النسق العام . أما جون باولبي فقد قدم هو الآخر منظورا وظيفيا على تربية الأطفال، يعتبر فيه دور الأم المحور الأســـــاسي لتنشئة الأطفال الاجتماعية، فإذا ما غابت الأم أو انفصــل عنها الطفل في مرحلة مبكرة من عمره تنشأ حالة من الحرمــــان من الأمـــومة يكــون من نتائجها أن يتعرض الطفل للخطر ومشاكل اجتماعية ونفسية بسبب التنشئة الاجتمــــــاعيــة القاصرة، وقد يكتسب الطفل نتيجة لذلك سلوكيـــــــات عدائية تجاه المجتمع، والحل حســب باولبي هو أن الطفل يجب أن يستمر في علاقات حميمية ومستمرة مع الأم، وكان يعتبــران استبدال الأم بأم بديلة ممكن شريطة أن تكون أنثى ممـــا يوحي أن دور الأمومة هو مهــمة للنساء فحسب ومن هنا فإن التقسيم الجنسي للعمل الذي يقوم أساســا على إعطـــــاء الأدوار والمهام الأعلى قيمة للرجال وللنسـاء العمل الإنجـــــابي وتربية الأطفال والسهر على راحـة الزوج هو ما يدعم مكانة الرجل في العائلة بوصفه يعولها ويكفلها ويعيد إنتاج شروط تفوقه في المكانة الاجتماعية على المرأة داخل العائلة.
4- نظرية التنشئة الاجتماعية :
أ- الأسرة والنوع:
من المهم في هذا السياق فهم الكيفية التي يتعلم من خلالها الأطفال أن يكونوا صبيانا أو بناتا ليصبحوا بعد ذلك رجالا أو نساءا وكذا الكيفية التي يتحدد بها السلوك الذكوري والسلوك الأنثوي، وكذا الكيفية التي تلقن بمقتضاها ممارسة الأنشطة التي تعتبر ملائمة لكل جنس على حدة، وكيفية التواصل بين الجنسين. و” هناك أدلة على أن كلا من آليات التعلم والإدراك تؤدي دورا في تطور الفروق الجنسية في اللعب عند الأطفال عموما. فالآباء يعززون الأولاد والفتيات بطرق مختلفة للعب بالألعاب “الذكورية” مقارنة بالألعاب” الأنثوية”مشجعين اللعب الجنسي النمطي. ومثبطين اللعب بألعاب الجنس الآخر.
وهكذا فإن الأطفال يتعلمون نوعهم الاجتماعي في سن مبكر، كما يتعلمون قواعد التصرف التي يكتسبونها من المجتمع عن طريق اللغة والألعاب والطقوس المختلفة وطرق التنشئة والتواصل التي تعمل على تمرير القيم والسلوكات. إنهم يتشربون قواعد ومعايير لضبط السلوك تشجعهم على التصرف بطريقة ذكورية أو أنثوية، وذلك من خلال الأدوار التي يقومون بها في ألعابهم حيث يطمحون إلى الوظائف والمهن التي يرغبون في القيام بها مستقبلا، ليميزوا أنفسهم ويميزهم الآخرون باعتبارهم ذكورا وإناثا، ويتم تعزيز ذلك خلال مراحل التربية المختلفة.
ب – المدرسة والنوع :
يهمنا أن نقف على الدور الذي تقوم به المدرسة بمناهجها ، واستراتيجياتها، وخطابها في نقل المفاهيم، والقيم ذات الصلة بعلاقات النوع والتي عادة ما تكون غير منصفة للفتاة والمرأة، ففي المغرب مثلا رغم أن الميثاق الوطني للتربية والتكوين ألح على ضرورة “أن يعمل النظام التربية والتكوين على تحقيق مبدأ المساواة بين المواطنين وتكافؤ الفرص أمامهم، وحق الجميع في التعليم إناثا وذكورا سواء في البوادي أو الحواضر ، طبقا لما يكفله دستور المملكة” فإن الموقف الذي تتخذه المدرسة والفتاة من المرأة يميل عموما إلى إعادة إنتاج مجموعة من النمطيات والمفاهيمم الجاهزة. وهذا يبرز سواء على مستوى الممارسة التربوية أو على مستوى الخطاب المدرسي بشكل عام. كما سنجد أن الفرق الكبير بين ولوج المدرسة من لدن الفتيات والفتيان وكذلك النتائج الدراسية للتلاميذ يوحي بأن هناك نوعا من إعطاء الأفضلية للفتيان على حساب الفتيات.
إن رصدا متنبها للمنهاج وعلى الأخص للكتب المدرسية والمواد التعليمية، إن كان مسلحا بشبكة للقراءة محورها حضور الفتاة والمرأة، يكفي لجعلنا ندرك أن تمثيلها جد مجحف في المواد الدراسية. فالمرأة عادة تكون غير مرئية أو مغيبة أو عرضة للنسيان سواء في الصور أو في النصوص والحديث عنها يتم عبر لغة جنسوية مفعمة بالمسبقات الذكورية، وإن اتفق وعرضت في الكتب المدرسية فإن تمثيلها يعرض من خلال صور نمطية تعيد إنتاج التقسيم الإجتماعي للعمل حسب النوع. وقد تنجح أحيانا تلك الكتب في نهج أسلوب للتعتيم على حضورها بلجوئها إلى إخراج جمالي محايد، غير أن مضمونها يظل في جوهره جنسويا وبالتالي ذكوري المنزع.
تعمل تلك الكتب على تكريس لا مرئية المرأة أو تغييبها عن المشهد ، أو النظر إليها من وراء حجاب وعلى نشر مجموعة من الأفكار الجاهزة والنمطيات المجحفة التي تقلل من قدرها، مما يمثل خلطا في الرؤية من شأنه أن يؤدي بالتوازن المطلوب في معرفة التلاميذ ومعلوماتهم عن الرجال والنساء وأن يشوّه الحقائق التاريخية والتجارب الإنسانية. وعلى الجملة سواء تعلق الأمر بالتنشئة الأسرية أو بالتربية المدرسية، فإن الكبار يقومون بتحديد مميزات معينة ويحددون أيضا أنشطة بعينها على أنها مناسبة للطفل أو الفتاة للرجل أو المرأة، ويضعون قواعد معينة تضبط العلاقات بين النساء والرجال والتي تعد من مشمولات ثقافة المجتمع، ثم يعمدون أخيرا عن طريق التنشئة إلى نقل هذه المفاهيم والتمثلاث إلى الصغار. بينما يعمل هؤلاء على استدماجها كأحد مكونات التنشئة التي تنتقل من جيل إلى جيل، وعليه يكتسب النوع الاجتماعي من خلال آليات التنشئة الاجتماعية والتربية العائلية والمدرسية، اللتين تعملان على تمرير واستبطان ثقافة المجتمع، ليتعرف عليها الأفراد باعتبارها تمثل هويتهم.
ج- الإعلام والنّوع:
ولكي يشق الرجال طريقهم في هذا العالم، عملوا على إسقاط العديد من الصفات المهترئة غير المرغوبة على ما يبدوا من الناحية التاريخية على المرأة، حتى ينكروا أي منشأ لها عن ذواتهم. بهذه الطريقة ألصق الرجال بطاقة الأنثوية على تلك الصفات التي لاحظوها على المرأة، بمعية تلك الصفات التي ينكرونها على أنفسهم. وبالمثل، تم إسقاط تلك الخصائص “الغير مرغوبة” على أناس من الأعراق والقوميات، والأجيال والأديان الأخرى.
ولأن النساء يعتمدن في مفهوم الذات وفي إدراكهن لهويتهن بل حتى في مظهرهن وذوقهن على مدركات الرجال، فإن هذا يجعلهن مستعبدات لما تروج له السينما والمحطات التلفزية والمجلات النسائية، تحت تأثير مفعول العرض العالمي، الذي لديه القدرة على التلاعب بمظهر المرأة كي يجعلها على صورة وشبه “موديل” مبتذل يكسى ويعرى تبعا لنوازع الموضة ودواعيها. إنه لأمر يبعث على الرثاء أن يجعل مفعول العرض العالمي المرأة تلهث دائما وراء الجديد والمبتكر لكي تغير من جلدها ما بين الشفط والنفخ والشد والنتف، بقد جعلتها الحداثة المتوحشة مجرد كائن جنسي قابل للاستهواء وللاشتهاء. وهكذا يجري تنميط جسم المرأة “في صورة ذلك النظام القار للاستعدادات والمواقف الذي أسميه “هابيتوس”. فالجسم يوجد داخل الحقل الاجتماعي. إلا أن الحقل الاجتماعي يكون أيضا حالا في الجسم، وأن حضور وحلول المجتمعي في الجسم الذي يحققه التعلم والترويض هو أساس الحضور في الحقل الاجتماعي، ذلك الحضور الذي تنظر إليه التجربة العادية والفعالية الناجحة كأمر عادي مفروغ منه.
إن دور الموضة وشركات صنع مواد التجميل وفنون التسويق والإعلان تعمل على تنميط المرأة بشكل يسهل “تسليع” جسدها كمتاع نجده معروضا في الورق الصقيل للمجلات النسائية ، والوصلات الإشهارية لمواد حفظ الصحة والتجميل، والأدوات المنزلية والسيارات…هكذا يعمل الإشهار عبر الخطاب الدعائي على استلاب المرأة وتشييئها بتقديمها كسلعة، أو في أحسن الأحوال كملهمة للسلوك الإستهلاكي. وصحيح أننا نشاهد بعض مظاهر المقاومة المضادة للصور النمطية عن المرأة ، مثل وضع الحجاب الذي يظهر في المشهد العام كرد فعل يحمل من بين معاني أخرى هوية تظاهر بها المرأة باعتبار أن لها كيانا يجب أخذه في الحسبان، وكاحتجاج على النظر إليها كمجرد أنثى أو جسد، ولعل هذا ما يزيد الحجاب انتشارا في سياق تحول اجتماعي تتضارب فيه القيم. غير أن فنون التجارة والموضة أخذت تعمل على استعادة هذا اللباس “المحتشم” وإفراغه من مدلوله، بتحويله إلى أحد “الاكسسوارات” التي تزيد هندام المرأة أناقة وجمالية.وهذا يبين مدى قدرة الرأسمال على اختراق التمثلات والمعايير والقيم.
المحور الثالث : النوع والتمثلات الاجتماعية للمرأة:
1- المرأة واللغة:
الواقع أن الحشمة الأثيرة في ثقافة المجتمعات التقليدية والتي تعطل المرأة عن الكلام تعطل دورها في النقاش العام، لأن التكلم هو القيام بلعب دور كما تقضي العوائد الاجتماعية بأن تتكلم المرأة بلغة معيارية سكت ألفاظها سكّا كي تكون مقبولة اجتماعيا وإلا فإنها تتعرض للاستهزاء. ولا نعلم إن كانت اللسانيات الاجتماعية في العالم العربي قد خصت لغة النساء بدراسة تكشف عن الخصائص العامة للغتهن سواء من حيث الصواتة أو الدلالة أو المعجم أو التركيب. بيد أن دراسة lakoff (1973) قد أبانت عن خلو الكلام النسائي من مجموعة من الكلمات التي لا تجري على ألسنتهن، كما كشفت فارقا أساسيا بين لغة الرجال والنساء، والذي يتمثل في صيغة التساؤل التي تنتهي به عادة الجملة التي تنطق بها النساء.
وما يعكس حضور ثنائية ذكورة وأنوثة في التمثل الاجتماعي المغربي هو العبارات التي تستعمل في لغة التداول اليومي م حيث نعت الرجل بأنه امرأة ضرب من السب والشتم، وفي المقابل فإن نعت المرأة بأنها رجل معناه إضفاء كل صفات الرجولة : القوة والشجاعة…عليها، كما نجد كذلك ربطا بين البكاء والمرأة وكأن البكاء سلوك أنثوي فقط. في قولنا “كتبكي كي المرا”
إذا ليست اللغة محايدة وليست مجرد أداة للتواصل البريء، إنها أداة لممارسة الهيمنة لأنها تتميز بتركيب يحكمه نحو قضيبي، فإذا تعلق الأمر بفعل يقوم به الرجال والنساء معا، فإننا ننسبه للذكور حتى لو تعلق الأمر برجل واحد ونساء كثر كقولنا “سبع نساء ورجل واحد حضروا الورشة”، لأن اللغة هي التي تتكلم فينا ولسنا نحن الذين نتحدث اللغة ، فإن قواعدها تصبح مستبطنة من ذاكرتنا، وتأتي تلقائية على لساننا، بحيث تستخدمها النساء والرجال مقدمين صيغة المذكر على صيغة المؤنث، وينذر أو يعدم أن نعثر على جملة تتقدم فيها صيغة المؤنث.
أما في الأنجليزية فإن كلمة رجل men تصبح جذرا مهيمنا، إذ نجدها في women وفي كلمة إنسان human أو الجنس البشري men kind لهذا ينادي دعاة مقاربة النوع بتفكيك هذه اللغة الذكورية التي تعمل على تغييب المرأة حتى في المفردات التي تقتضي من حيث المنطوق وجودها، وإعادة بناء اللغة بالشكل الذي يجعلها تكف عن كونها لغة جنسوية، أي لإرساء القواعد المؤسسة للغة محايدة تعيد للمرأة الاعتبار في الكلام وفي الخطاب.
ونجد في القرآن الكريم معينا لهذه اللغة التي تعيد الاعتبار للمرأة، بما أنها مخاطبة بالشريعة مثلها مثل الرجل، إنها لغة تلغي كينونة النساء، بل تستحضرهن والرجال سواسية، مثل الآية الكريمة :” إن المسلمين والمسلمات والمومنين والمومنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما”.
2- المرأة والجسد:
لعل أول محدد للمرأة في المخيال الاجتماعي ومهما اختلفت الطبقات والمستويات الثقافية والاجتماعية هو جسدها فهي غالبا ما تختزل فيه، إنه على حد تعبير مصطفى حجازي” مرغوب فيه” ، من حيث هو وعاء للمتعة ومجال لتحققها، فكلما كانت أكثر جمالا وجاذبية كلما كانت فرص زواجها أوفر. مما يعني طغيان البعد الجنسي وتحولها إلى أداة للمتعة. وما يؤكد هذا هو إحاطة جسدها بمجموعة من الممنوعات حيث ترتبط بالشرف هذا الشرف الذي يختزل في العفاف الجنسي بعد الزواج وفي حفاظها على بكارتها قبله، شرف الأسرة يختزل فيها وفي هذا البعد ومن هنا وجب أن تحفظ وتستر ما دام جسدها “عورة”، إنه مصدر إزعاج وقلق وخوف الأسرة (الأب)، مصدر إزعاج لها أيضا وفي المقابل فالذكر مهما كان ذنبه فذلك لا يؤثر بشكل كبير على الأسرة وشرفها بقدر ما ينظر إليه أحيانا نظرة افتخار لأنه رمز للفحولة والرجولة. هذا الشرف يهم الرجال والنساء. إنه مصدر قوتهن لأنه مرغوب فيه وضعفهن لأنهن مطالبات بالحفاظ عليه، ومن هنا ترسم صورة للمرأة الأنثى من حيث ارتباطها مع ما سبق ذكره. ما يؤكد اختزالها في مفهوم الجسد.
3- المرأة والزواج:
يعتبر الزواج في المخيال الشعبي مصدر راحة للفتاة ولعائلتها لأن ذلك القلق والخوف الدائم على شرفها في إطار ما يمكن تسميته بإيديولوجية العرض العائلي، قد تم تجاوزه على الأقل ما دامت متزوجة ومهما كانت قيمتها المادية والاجتماعية فإن قيمتها تركز بشكل أكبر على الإنجاب وخاصة إنجاب الذكور، لأن ذلك يحقق لها إحساسا بالرضا عن الذات. ومصدر فخر واعتزاز أيضا ، وهذا ما يعزز قولنا بكون الذكورة قيمة مثمنة، إنها من هذا المنظور ملكية للأسرة-الأب قبل الزواج وملكية للرجل-الزوج بعده.
4- المرأة والعمل:
إن عمل المرأة كذلك يكشف عن هذا التصور الذي يحمله المخيال الاجتماعي، فمهما كانت وظيفتها ينظر إليها كامرأة. إنها تقترن بمعاني الانفعال، الضعف، والقصور،..ويزداد الأمر حدة كلما كانت تزاول عملا يدويا وكلما كان مستواها الدراسي متدنيا… وبقدر ما يشكل مجالا لاثباث ذاتها بقدر ما يكون مجالا لاستغلالها.ويكشف عن صورتها في التمثل الاجتماعي تلك الصورة التي تساهم هي كذلك في رسمها وتحديدها. فالمرأة تقبل أن تشتغل وبأجر أقل من الرجل خاصة في الضيعات والمعامل والمحلات التجارية، وحتى في بعض الوظائف المرتبطة بالقطاع الخاص، ففي الظاهر يبدو أن الأمر يعبر عن مساواتها مع الرجل فقد أصبحت تقوم بوظائف وتزاول مهنا كانت إلى عهد قريب رجولية بامتياز، فهاهي تشتغل في المحلات التجارية والمقاهي، إلا أن هذا التشغيل ليس بريئا بل في الوقت الذي تشتغل فيه فهي توظف كجسد لجلب الزبائن من حيث هي موضوع إثارة وأداة لها، والغريب أن الأجرة التي تتقاضاها لا تكاد تذكر. هذا الواقع يرتبط بمواقف من المرأة من حيث هي جسد مرغوب فيه دون مراعاة لبعدها الإنساني، وفي سياق محاولات المرأة انتزاع الاعتراف والمساواة مع الرجل استطاعت إن لم نقل مكنت من شغل مناصب كانت حكرا على الرجل- لأسباب سياسية وايديولوجية- ومن بينها اشتغالها في مجال الأمن الوطني كشرطية مرور ورغم أن حضورها لا زال محتشما يقتصر على بعض المدن وبالتحديد وسط مركز المدينة. وغالبا ما تكون إلى جانب شرطي وكأنها في حاجة دائمة إلى حمايته، شرعية وجودها وضمان أمنها مرتبطان بوجوده. أما حين يتعلق الأمر بالمرأة كربة بيت فإن ما تقوم به لا يعتبر عملا- من حيث أنه غير منتج ونجد ذلك صريحا في التعبير الدارج “غير كاعدة فالدار” هذا النوع من الاشتغال هو “عمل لا مرئي” وغير معترف به من حيث هو مجهود شاق ومنتج، ما دامت المرأة تقوم به داخل البيت.