الاجتماع الإنساني: موضوعه وأهميته ومنهجه

وقد أكد ابن خلدون ضرورة وجود علم مستقل لتناول أمور الاجتماع الإنسانى والعمران البشري, ووضع لهذا العلم موضوعاً, ومجالاً ومنهجاً, وأقام بناؤه على أساس تأمل ونظر، وخبرة فعلية وواقعية واسعة النطاق على مساحة كبيرة شملت معظم أقطار العالم العربي بدءاً من الأندلس إلى مصر والشام والحجاز. حيث يقول: ” اعلم أنه لما كانت حقيقة التاريخ أنه خبر عن الاجتماع الإنساني الذي هو عمران العالم, وما يعرض لطبقة ذلك العمران من الأحوال مثل التوحش والتأنيس والعصبيات وأصناف التغلبات للبشر على بعض, وما ينشأ عن ذلك من الملك والدول ومراتبها, وما ينتحله البشر بأعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعاش والعلوم الصنائع وسائر ما يحدث من ذلك العمران بطبيعته من الأحول…”.

هكذا ؛ يبدأ ابن خلدون بتحديد جوهر التاريخ بأنه هو التاريخ الاجتماعي الذي يختص بأنماط المجتمعات الإنسانية من وحشية (بدائية, أو مدنية, أو قبلية) تلعب فيها العصبية دوراً بارزاً, كما أن ” القوة ” بكل ما تنطوي عليه من معنى تمثل بعداً أساسياً من أبعاد التاريخ الاجتماعي الذي هو عمران العالم أو حياته الاجتماعية. كذلك يهتم العمران البشرى بالحياة الاقتصادية والأحوال المعيشية للجماعات الإنسانية.

وإذا كان التاريخ في جوهره هو تاريخ المجتمعات البشرية, فإن الكتابة عن هذه المجتمعات لا تكون ” بالتأمل ” وإنما بالمعايشة, و “المطابقة” بين الفكر والواقع, ويكتب ابن خلدون عن ذلك يقول : « وأما الأخبار عن الواقعات فلابد في صدقها وصحتها من اعتبار المطابقة, فلذلك وجب أن ينظر في إمكان وقوعه, وصار فيها ذلك أهم من التعديل ومقدماً عليه, إذ فائدة الإنشاء مقتبسة منه فقط, وفائدة الخبر منه ومن الخارج بالمطابقة, وإذا كان ذلك فالقانون في تمييز الحق من الباطل في الإخبار بالإمكان والاستحالة أن ننظر في الاجتماع الإنسانى الذي هو العمران, ونميز ما يحلقه من الأحوال لذاته, وبمقتضى طبعه, وما يكون عارضاً لا يعتد به وما لا يمكن أن يعرض له. وإذا فعلنا ذلك كان ذلك ” قانوناً ” في تمييز الحق من الباطل في الإخبار, والصدق من الكذب بوجه برهاني لا مدخل للشك فيه – وحينئذ – فإذا سمعنا عن شئ من الأحوال الواقعة في العمران علمنا ما نحكم بقبوله مما نحكم بتزييفه, وكان ذلك لنا معياراً صحيحاً يتحرى به المؤرخون طريق الصدق والصواب فيما ينقلونه ».

والواقع أن النص السابق ينطوى على تحديدات واضحة لما ينبغى أن يكون عليه البحث في الوقائع الاجتماعية أو العمرانية, فالمطابقة هنا تعني التحقق الأمبريقى, والواقع وحده هو المعيار الذي نحتكم إليه في قبول المعلومات والمعارف أو رفضها, والتاريخ لا يكون صحيحاً مقبولاً إلا إذا ربط نفسه أكثر فأكثر بالاجتماع الإنساني أو العمراني البشري وما يلحق به من أحوال.

وحينما يقرر ابن خلدون الحقيقة الاجتماعية للتاريخ نجده يؤكد أن ذلك يستدعى وجود علم مستقل, قائم بذاته لدراسة الواقعات الاجتماعية, وفي ذلك يقول في نص واضح تماماً : «… وهذا هو غرض هذا الكتاب الأول من تأليفنا, وكأن هذا علم مستقل بنفسه, فإنه ذو موضوع وهو العمران البشري والاجتماع الإنساني, وذو مسائل وهي بيان ما يلحقه من العوارض والأحوال لذاته واحدة بعد أخرى وهذا شأن كل علم من العلوم وضعياً كان أو عقلياً».

 إذن, فعلم العمران البشرى علم مستقل يتناول بالدراسة كل ما يحلق بالحياة الاجتماعية من عوارض أو تغيرات, ويدرسها واحدة تلو الأخرى, ووجود موضوع محدد للعلم هو المعيار الذي نحتكم إليه في الاعتراف بوجود هذا العلم (21).

x