الاسهامات العلمية التي قدمها ادموند هوسرول 2

والمبحث السادس “عناصر للبحث الفينومينولوجي في المعرفة” يميز فيه هوسرل بين الحدس الحسي، أي الإدراك الحسي المباشر للأشياء، وحدس الموضوعات المتخيلة ومنها أفعال المخيلة مثل التذكر والاستبقاء (بالإنجليزية:Retention) أي الاحتفاظ بالإدراكات السابقة في الذاكرة أثناء تلقي إدراكات جديدة، والتجميع (بالإنجليزية:Recollection) أي تجميع خبرات حسية سابقة، وأخيراً الحدس المقولي (بالإنجليزية:Categorical Intuition) أي الحدس باعتباره إدراكاً مباشراً للمقولي المتضمن في المحسوسات، أو للكلي المتضمن في الجزئيات بصورة مباشرة غير معتمدة على التعميم من الاستقراء. كذلك يميز هوسرل بين قصدية الوعي نحو الجزئي وقصديته نحو الكلي، والقصدية نحو الجزئي تجعل الوعي في نمط الإدراك الحسي، والقصدية نحو الكلي تجعل الوعي في نمط الفهم التصوري. ويختم هوسرل المبحث بالتمييز بين الحس والفهم، مكرراً بذلك نفس التمييز الكانطي لكن ناظراً إليهما على أنهما فعلين لوعي واحد لا ملكتين كما الحال عند كانط. ونكتشف في هذا المبحث كيف أن هوسرل أعاد اكتشاف المخيلة وأفعالها باعتبارها عنصراً أساسياً في عملية المعرفة والتي سبق لكانط أن وضع يده عليها لكن تم نسيانها من جراء تأثير تيار الكانطية الجديدة.
والحقيقة أن هذه المباحث الستة كانت أول تطبيق للمنهج الفينومينولوجي عند هوسرل، إذ شهدت الفينومينولجيا باعتبارها طريقة وأسلوباً في تحليل قضايا المعرفة. لكن لم يضع هوسرل للمنهج الفينومينولوجي قواعد وخطوات إلا مع كتاب “الأفكار” (بالألمانية:Ideen) سنة 1913. وكتاب “الأفكار” ليس إلا مقدمة للفينومينولوجيا، وأغلبه عرض للخطوة الأولى في المنهج و هي “الإبوخية” أو تعليق الحكم، ولا يحتوي على تحليلات فينومينولوجية مفصلة مثل التي تحتويها “أبحاث منطقية”، إذ كان هذا الأخير هو الأساس الذي بنى عليه هوسرل تحليلاته للوعي المعرفي فيما يخص الزمان الداخلي وإدراك الشئ والمكان والتي ظهرت في محاضراته في الفترة من 1901 إلى 1909.
عناصر التحليل الفينومينولوجي عند هوسرل[عدل]
إن المهم في العرض التالي لعناصر التحليل الفينومينولوجي الكشف عن المفاهيم الأساسية التي استخدمها في التحليل، لا عرض المنهج الفينومينولوجي وفق خطواته المعروفة: تعليق الحكم والبناء والإيضاح، لأن عناصر التحليل هي ما سوف نبحث عن توازيات لها في الفصل الخامس عند كانط، ولأن خطوات المنهج الثلاث ليست إلا تنظيراً من وجهة نظر هوسرل لأسلوب التحليل الفينومينولوجي. كانط لم يكن يعرف الفينومينولوجيا باعتبارها منهجاً ذا خطوات بل كان يمارس تحليلاً أطلق عليه “ترانسندنتالي”، وما نحاول توضيحه هو القرابة الكبيرة بين التحليل الترانسندنتالي الكانطي والتحليل الفينومينولوجي الهوسرلي.
التمييز بين السيكولوجي والفينومينولوجي[عدل]
ألا يعني البحث في أفعال الوعي المؤسسة للمعرفة بحثاً سيكولوجياً في المعرفة؟ لقد فهم هوسرل هذه النوعية من البحث على أنها سيكولوجيا معرفية بالفعل في أولى مؤلفاته “فلسفة علم الحساب” (1891)، ويظهر هذا في العنوان الفرعي الذي وضعه للكتاب: “أبحاث سيكولوجية ومنطقية”؛ وفيه يرد مفاهيم علم الحساب إلى الأفعال الذهنية التي تولد هذه المفاهيم، إذ يرد مفهوم الكثرة (بالإنجليزية:Multiplicity) الذي هو أساس مفهوم العدد إلى فعل الدمج الجمعي (بالإنجليزية:Collective Combination)، ويرد مفهوم الفئة (Set) إلى الوعي بالكل والأجزاء. لكن سرعان ما غير هوسرل موقفه ذاك مع “أبحاث منطقية” وفهم البحث في أفعال الوعي على أنه فينومينولوجيا للمعرفة، ذلك البحث الذي يستند على مفهوم القصدية؛ ذلك لأن الوعي بالمعنى الفينومينولوجي هو الذي يتضمن القصدية، بمعنى احتوائه على إدراك قبلي للماهية من جهة توجه أصلي نحوها، وكونه ممتلكاً الموضوعية باعتبارها محايثة له، وهذا ما لا يتوافر للوعي السيكولوجي. كما تطلب منه أيضاً التمييز بين الأفعال السيكولوجية للوعي من حيث أنها مصاحبة للمعرفة لكونها سلوكاً وظيفياً يستجيب لتلقي الإدراكات الحسية، وبين الأفعال الفينومينولوجية أو القصدية للوعي والتي ليست مجرد مصاحبة للمعرفة سلوكياً بل هي التي تؤسس المعرفة قبلياً من حيث هي استعدادات. وقد جاء هوسرل بكل هذه التمييزات في سياق نقده للنزعة السيكولوجية في المنطق والتي ظهرت في المذاهب التجريبية الإنجليزية: لوك وهيوم وجون ستيوارت ميل، وفي الاتجاه النفسي للكانطية الجديدة وخاصة لدى هرمان لوتزة.
والنزعة السيكولوجية في المنطق هي النزعة التي ترد مبادئه وقوانينه إلى الوظائف السيكولوجية للذهن، وتنظر إلى عمليات الاستدلال والحكم على أنها عمليات نفسية وتدرسها من وجهة نظر وظيفية وسلوكية. والنزعة السيكولوجية بذلك تنكر  أن يكون للعمليات المنطقية مجالاً مستقلاً عن مجال الحياة النفسية للنوع البشري وجهازه العصبي السلوكي. وبذلك تقف عقبة في طريق البحث في المجال الفينومينولوجي للخبرة، وهو المجال القبلي الذي تتأسس فيه الموضوعية باعتبارها قصدية للوعي. وفي شرحه للنظرية التي ترد المنطق إلى علم النفس يذهب هوسرل إلى أن هذه النظريات تستند على كون الاستدلال والحكم أفعال ذهنية (Mental Acts) تحدث في سياق الاستجابة السلوكية للجهاز العصبي، وبالتالي فهي تنتمي إلى مجال دراسة علم النفس، إذ أن مجاله يضم كل ما ينتمي للذهن من حالات وأفعال.
ويرد هوسل على النظريات السيكولوجية بقوله إنه من الصحيح أن سيكولوجيا المعرفة تتناول أفعال الحكم والاستدلال لكونها أفعالاً ذهنية، إلا أن تناولها لها يختلف عن تناول المنطق؛ فالقوانين التي يبحث فيها علم النفس تختلف عن القوانين المنطقية، ذلك لأن علم النفس يبحث في الصلات التي تربط بين الأفعال الذهنية وبعضها بطريقة سببية بناء على النظام السلوكي للجهاز العصبي؛ أما القانون بالمعنى المنطقي فيختلف عن التفسير السلوكي الذي يسعى إليه علم النفس. فالقانون بالمعنى المنطقي هو تعبير عن محتوى الصدق المتضمن في التصورات والأحكام والاستدلالات، وهو يبحث عما يجب أن يكون عليه التفكير كي يكون منطقياً؛ ومن هنا يأتي طابعه المعياري، ذلك الطابع المختفي تماماً من الدراسة السيكولوجية للتفكير.
كما يذهب هوسرل إلى أن قوانين المنطق تتمتع بصحة مطلقة ونهائية في حين أن قوانين علم النفس تجريبية واحتمالية وتعتمد على التعميم من انتظامات تجريبية، وعلى الربط بين أحداث نفسية باعتبارها أجزاء في منظومة سلوكية. ولا يمكن أن تؤسس قوانين المنطق على مثل هذه الأسس. كما أن القوانين السيكولوجية المستخرجة من تعميمات لا تتمتع إلا بصحة احتمالية وشرطية، في حين أن قوانين المنطق قبلية. صحيح أن استدلالات المنطق تعتمد على عمليات ذهنية، لكن لا يعني ذلك رد قوانين المنطق واستدلالاته إلى علم النفس، ذلك لأن هوسرل يميز بين السياق السلوكي الذهني الذي يحدث فيه فعل منطقي معين، و بين محتوى الصدق الذي يتضمنه هذا الفعل المنطقي والذي يرجع إلى فعل خالص للوعي.
كما يميز هوسرل بين السياق السيكولوجي الذي يمكن أن تظهر فيه قوانين المنطق وتحدث فيه الاستدلالات المنطقية، وبين التبرير القبلي لهذه القوانين. وفي ذلك يقول: لا شك أن معرفتنا بالقوانين المنطقية باعتبارها أفعالاً ذهنية تفترض خبرة الأفراد، ولا شك أن لها أساساً في الحدس العيني. لكن يجب ألا نخلط بين الفروض السيكولوجية لمعرفة قانون ما وبين الفروض المنطقية والأسس والمقدمات الضرورية لقانون ما؛ كما يجب ألا نخلط بين الاعتماد السيكولوجي والتبرير المنطقي.. كل المعرفة تبدأ مع الخبرة لكنها لا تنشأ عنها.
ونلاحظ أن العبارة الأخيرة “كل المعرفة تبدأ من الخبرة لكنها لا تنشأ عنها” هي ترديد حرفي لنفس العبارة الواردة في مقدمة “نقد العقل الخالص” لكانط (B1-2). ويقصد هوسرل بذلك، ومن قبله كانط أيضاً، أن الخبرة مرتبطة بالفعل بالتجربة  بتعبير كانط، أو بالسياق السيكولوجي لظهورها بتعبير هوسرل، لكن لا يعني ذلك أنها تنشأ بالكامل عن التجربة أو عن السياق السيكولوجي، ذلك لأن لها أصلاً قبلياً. إن الترديد الحرفي من قبل هوسرل لعبارة كانط يجعلنا نكتشف التشابهات العميقة بينهما ونضع أيدينا على اتفاق عام بين فينومينولوجيا هوسرل والإبستيمولوجيا الكانطية.

x