التناشز الاجتماعي

اقتبس علي الوردي هذه الفرضية عن (وليم اوكبرن) الامريكي بعدما عدلها و حورها و جعلها تلائم طبيعة المجتمع العراقي.

يقول الدكتور الوردي ( إن التناشز الاجتماعي يرادف كل تغير يقع في المجتمع وكلما كان التغيير اكبر و أسرع كان التناشز الاجتماعي اشد و أكثر تنوعاً وسبب التناشز إن عناصر التراث الاجتماعي لا تتغير كلها على وتيرة واحدة أو بسرعة واحدة فمنها ما يت…غير بسرعة وعلى درجات متفاوتة وهذا يؤدي إلى ظهور بعض المشاكل الاجتماعية).

ويقول أيضا( من طبيعة التغيير السريع انه لا يؤثر في جميع أجزاء الكيان الاجتماعي بدرجة واحدة فكثيراً ما يكون هناك جزءان مترابطان ثم يحدث التغيير في احدهما دون ان يحدث في الأخر فيؤدي ذلك الى صراع أو توتر أو تناقض بينهما).

وقد بين ذلك في استشهاده بالكثير من الأمثلة ومنها ( ان الاب يسمح لابنته ان تدخل المدرسة ثم تتعين في وظيفة خارج البيت ولكنه في الوقت نفسه يريد منها ان تكون مثل أمها لا تعرف من دنياها سوى الطاعة والخضوع على طريقة (خايب يا گلبي) و اذا علم ان ابنته وقعت في الغرام انتفض غاضباً يريد ان يغسل عن نفسه و أسرته العار الذي لحق به.

يعود الوردي ليوجز ( مفهوم التناشز الاجتماعي ) بقوله : يجب ان لا ننسى ان الحضارة هي عادات ونظم اجتماعية ، قبل ان تكون افكارا ومحفوظات ، فالفرد في البلاد الراقية حضاريا ينشأ في حياته البيتية على عادات تلائم الحضارة التي يعيش فيها ، فلهذا فهو اذا كبر لا يجد فرقاً كبيراً بين حياته الاولى في طفولته وبين حياته الثانية في كبره ، اما الفرد عندنا فهو قد ينشأ في بيئة محلية مفعمة بقيم العصبية ، حتى اذا كبر تعلم افكارا مناقضة لتلك القيم ، وهو بذلك قد يجد نفسه مضطراً ان يجاري هذه تارةً وتلك تارةً اخرى .

ومن الجدير بالذكر ان للوردي اسلوب خاص في الكتابة يمتاز بكونه سلس ومتين، تشعر أثناء القراءة له أنه يتحدث إليك أكثر من كونه يكتب لك، ففي كتابته حرارة وصدق، وهو لا يبالغ في اهتمامه بالجانب التنظيري والأكاديمي، بل يطرح أفكاره بأكبر قدر ممكن ن العفوية والبساطة، وفي نفس الوقت بأكبر قدر ممكن من العمق والتأثير، ما يلاحظ على الوردي هو: التكرار، فتجده يكرر الفكرة الواحدة في مواضع كثيرة من الكتاب، ورغم ذلك، فأنه بدا لي أنه في كل مره يكرر الفكرة فهو يرسخها من جهة، ويوضحها أكثر من جهة أخرى، لأنه وإن كان يكررها، فهو يأتيها من عدة مواضع؛ ما يجعل وقعها جديداً في كل مرة على القارئ.

في بداية النصف الثاني من القرن المنصرم عاد علي الوردي من أمريكا بعد أن أكمل دراسته للدكتوراة وكانت دراسته عن ابن خلدون. في تلك الفترة البعيدة أيام الأسر في حيز الفكر القومي المتزمت والفكر اليساري في صيغته المتحجرة كان علي الوردي وعلى هدى دراسته لعلم الإجتماع وعلم النفس الإجتماعي قد قدم طريق ثالث يدعو الي مجتمع يعتمد اللبرالية السياسية. في تلك الفترة البعيدة كان علي الوردي طليق لم تقيده تبجحات من يتحدثون عن البرجوازية الصغيرة وغيرها من التوهم الذي يصيب النخب بأمراض يصعب الشفاء منها. وقد دعاء إدوارد سعيد في كتابه الأخير النزعة الإنسية وهوكتاب يعتبر شفاء لإدوارد سعيد نفسه من الدوار الذي لازم أفكاره التي سبقت كتابه الأخير بل أن إدواد سعيد قد إعترف أن كتابه الإستشراق قد خدم الأصولية والأصوليين أكثر من خدمته للتنوير.

ففي كتاب إدوارد سعيد الأخير عاد إدوار سعيد الي فكرة تجعله متوافق مع أفكار علي الوردي التي قد دعاء إليها في بداية النصف الثاني من القرن المنصرم ومن هنا تتضح بعد الرؤية لعلي الوردي الذي سبق إدوار سعيد بسته عقود حينما رفض المركزية العرقية والطهرانية الدينية وأمراض النخب الثقافية التي تتمثل في التناشز الإجتماعي وإزدواج الشخصية. أما عندنا في السودان مازال من يعاني من الإزدواج في الشخصية يدافع عن البداوة و يذكر مشكلة البرجوازية الصغيرة بفكر متعطل ومتبطل.

إعتراف إدوارد سعيد إذا قارنه مع إصرار من يتحدثون عن البرجوازية الصغيرة ويمجدون البداوة بمنهج ماركسي قد إزدراه كل ذو عقل سليم حتي روجس دوبريه الذي قاتل جنبا لجنب مع جيفارا قد قالها واضحة لم يعد الآن وجود أي فيلسوف يحترم نفسه ويكون بإستطاعته الدفاع عن الفكر الشيوعي. أما العدالة الإجتماعية فإنها مسألة أخرى فكما كان يظن الماركسيون في أنتهاء الصراع الطبقي فهناك مسألة نظم الحكم اليوم من تستطيع أن تضع أسس للعدالة الإجتماعية كما يري الفيلسوف ريموند آرون أيام كان جان بول سارتر مالئ الدنيا وشاغل الناس بوهم أن كل من لم يدافع عن الشيوعية والمنظومة الإشتراكية فهوكلب. وحينها كتب ريمون آرون كتابه أفيون المثقفين في نقد مواقف سارتر كفيلسوف أخرق يدافع عن نظم شمولية.

مثل حالة سارتر في إنفصامه بالفكر الماركسي اليوم حال من يدافعون عن البداوة وإعادة أدبيات البرجوازية الصغيرة كنوع من التميز الفكري في زمن أصبح لا يمكن لعاقل أن يتبجح بالدفاع عن البداوة إلا إذا كان يجهل علم الإجتماع كما أنتقد كلود ليفي أشتروس سارتر و وصف تمسكه بدفاعه عن الشيوعية في فكرة الإلتزام الأدبي التي وضعت سارتر كأكبر مدافع عن النظم الشمولية بأنه يجهل علم الإجتماع.ِ وكلود ليفي أشتروس قد دافع عن ثقافة الشعوب البدائية في دراسته للهنود الحمر في غابات الأمازون. وقد نتجت من دراسته لهم كتابات أدبية جميلة نذكر منها مدارات حزينة. ورد كلود ليفي أشتروس الإعتبار لثقافات الشعوب البدائية وقال أن لها مكنزمات تفوق ثقافة من يزعمون القيام بفكرة عبء الرجل الأبيض. وهي تختلف عن معالجة علي الوردي للأمراض التي تتأتى من البداوة كالتناشز الإجتماعي وإزدواج الشخصية الذي توصل عبره عالم الإجتماع العراقي علي الوردي لفكرته من دراسة الشخصية العراقية وعممها على المجتمع العربي كله.

x