الجذور الفكرية لعلم الاجتماع

يرتبط تاريخ علم الاجتماع ارتباطاً قويأً بما يسمى عصر التنوير في كل من فرنسا وإنجلترا. فالإنجازات التي حققها المجتمع البرجوازي قد بدت وكأنها معايير يمكن من خلالها الحكم على الأشياء, لقد أصبح الناس يعارضون أي شئ قد لا يتسق مع التطور الطبيعي للمجتمع، وفي معظم المجتمعات الأوربية إتخذ التنوير ملامح عامة مشتركة من بينها : الرغبة في إيجاد نظام اجتماعي متحرر من كل القيود الإقطاعية, نظام واضح ومحدد يمكن فهمه واستيعابه تماماً, والإيمان الراسخ بأن التقدم الذي طرأ على العلوم الطبيعية يمكن أن يتحقق أيضاً بالنسبة للاقتصاد والسياسة والأخلاق مع التسليم بأن حياة الإنسان سوف تظل تنعم بالحرية. يضاف إلى ذلك ما اكتشفته المجتمعات الأوربية – آنئذ – من أن الحضارات ” الغربية ” غير المسيحية قد تتحدى هي الأخرى التقاليد التاريخية التي طالما استندت إلى الدين والاستبداد, وأن التاريخ قد لا يتخذ المسار الذى تحدده القوى الغيبية ويعبر فقط عن تغير الملكيات, وإنما يتحدد من خلال الأفعال الإنسانية التي قد تشجعها ” الطبيعة ” أو تعوقها. كذلك فإن المجتمعات الأوربية قد بدأت تسلم بأن سعادة الفرد – التي كانت قبل ذلك هي أهم عناصر الحياة – قد ارتبطت بقانون يعبر عن تفكيره وتأملاته. وأخيراً نجد اعتقاداً مؤداه, أن أفضل سبيل لتنظيم المجتمع وتطوره هو استخدام الإنسان لقدراته الفكرية(27).

فبذلك يستطيع فهم الظروف القائمة وتحليلها ونقدها, ثم يتصرف بعد ذلك طبقاً بما يمليه عليه العقل. وتنظر هذه الفلسفة السياسة الاجتماعية الشاملة إلى المجتمع بوصفه كلاً شاملاً. فهي تؤكد هذا الطابع الكلي برغم اختلاف مظاهره وتجلياته, ثم تبحث عن الارتباطات المختلفة التي تشكل المجتمع. ولقد بدأت العلوم الاجتماعية – كل بطريقته الخاصة – دراسة هذه المظاهر والتجليات بهدف فهم هذا الكل في ضوء الضرورات التي تفرضها الطبيعة. وبرغم ذلك فلقد كانت العمليات الطبيعية من أهم القوى المحركة للحضارات. وهكذا بدأت المجتمعات الأوربية تتخلى تدريجياً عن التسليم بضرورة الظروف الطبيعية, مما مهد لظهور فكرة “العقد الاجتماعي” التي وضعت حداً لكثير من الصراعات. بيد ان فكرة “العقد الاجتماعي” ما لبثت هى الأخرى أن تعرضت لبعض التعديلات. فوجود الدولة – وبالتالي الحكومة – قد أصبح مرتبطاً فقط بإجماع الأفراد على أنها وسيلة لحماية ممتلكات الأفراد وحرياتهم واستقلالهم. ويستند المجتمع – بحكم طبيعته – إلى تقسيم العمل والمساعدة المتبادلة. إذ لا يستطيع الأفراد الاستمرار في البقاء دون وجود مشاعر الأخوة والتعاطف.

وخلال تلك الفترة كانت السياسة العلمية تعنى قبول المبادئ والقوانين التي تتوصل إليها العلوم الطبيعية. ” فالنظام الطبيعى ” Natural Order  الذي تحدث عنه نيوتن Newton  يمكن أن ينطبق على المجتمع تماماً كما ينطبق على السياسة. وهكذا بدأ بعض المفكرين يعتقدون أن الظواهر الاجتماعية – شأنها شأن الظواهر الأخرى – يمكن أن تخضع للملاحظة المنظمة، وبالتالي يسهل دراستها ومقارنتها وتصنيفها. وبعبارة أخرى فإن دراسة الظواهر الاجتماعية يمكن أن تفضى فى نهاية الأمر إلى مجموعة من القوانين. ولقد حاول علم الاجتماع فيما بعد تحقيق هذا المطلب, حتى أن بعض علمائه قد ذهبوا إلى حد القول بأن هذا العلم لا يمكن أن يستحق اسمه إلا إذا نجح فى الوصول إلى قوانين علمية دقيقة. وهناك بعض آخر من علماء الاجتماع ما يزالون يطالبون بضرورة ارتباط هذا العلم بالفلسفة الاجتماعية, وعلى أية حال فإن الشئ المؤكد هو أن علم الاجتماع قد عاصر نشأة العلوم الاجتماعية الأخرى (وإن لم تعانى من نفس الغموض والاتساع) خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر(28).

أما أبرز المفكرين الذين كانت لهم بصمات واضحة على تطور علم الاجتماع فهم : الفرنسى شارل دى مونتسكيو (1689-1755), الذى قربت أفكاره من أفكار ابن خلدون, وخاصة حول علاقة النظم الاجتماعية وتأثرها بالبيئة والمناخ, والإيطالى جيامباتيستا فيكو (1668-1744) الذى قسم تاريخ كل شعب إلى ثلاثة عصور, ثم الفرنسيان كوندرسيه (1743-1794) وسان سيمون (1760-1825), والأخير كانت له آثار واضحة فى تقدم علم الاجتماع أقلها أنه دعا إلى قيام ” فيزيولوجيا اجتماعية”.  ويلاحظ أن مونتسكيو وكوندرسيه وسان سيمون قد ساهموا فى تشكيل الثورة الفرنسية (1789) كل بطريقة معينة, تلك الثورة التى كانت نتاجاً لفكر التنوير وثمرة من ثماره. أما مونتسكيو – الذى لم يدرك تلك الثورة – فقد أثر فيها فكرياً, فى حين شارك كوندرسيه بها مشاركة فعلية وأصبح أحد ضحاياها, بينما كان سان سيمون أحد مؤيديها. هذه الثورة التى شكلت انتصار الطبقة البرجوازية على الإقطاع إنما كانت لها أهمية عظمى فى تبلور علم الاجتماع, وخاصة فى محاولة كشف آليات الاستقرار الاجتماعى التى أربكتها الثورة.

ولابد من الإشارة هنا إلى تشكل تيار مضاد لفكر الثورة الفرنسية, بل لفكر عصر التنوير على الجملة, أقصد به التيار القديم المحافظ, الذي ظهر فى نهايات القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر, وهذا التيار أثر فى علم الاجتماع وتطوره. إذ دعا النقل بدلاً منه, مؤكداً على أهمية الجماعة والأسرة والقيم التقليدية والاستقرار الاجتماعى, محارباً النزعة الفردية. أما سياسياً, فكان هذا التيار موالياً للملكية, مضاداً للجمهورية. وأبرز مفكرى هذا التيار هم : إديموند بيرك (1727-1797), وجوزيف دى ماستر (1754-1840) ولويس دى بونالد (1754-1840).

وقد اتخذ أوجست كونت (1798-1857) موقفاً وسطاً بين فكر عصر التنوير الثورى, والفكر المضاد له المتمثل بالحركة الرومانسية, وهو موقف سيتبناه من يخلفه فى تيار البنائية الوظيفية. إذ أقر النظرة العلمية التى نادى بها فلاسفة عصر التنوير, بل إنه هو ذاته قد أسس مذهباً يعرف بالوضعية ” يحصر نفسه فى حدود التجربة وحدها, بحيث لا يجاوز عالم الأشياء العينية التى تدركها الحواس “. وتأسيساً على ذلك فقد رفض كونت الشق الثانى من آراء عصر التنوير – أقصد تلك الآراء الثورية النقدية – بدعوى أنها تأملات فلسفية عقيمة لا يسندها أى واقع فعلى قابل للقياس. وهو موقف وضعه فى مصاف المفكرين الرومانسيين. فقد رأى كونت أن حركة المجتمع تخضع بالضرورة لقوانين فيزيائية لا تتغير, بدلاً من أن يحكمها نوع من الإرادة “. واقترن تمسكه بالمنهج العلمى “برفضه لادعاء الإنسان أنه قادر على تغيير نظمه الاجتماعية وإعادة تنظيمها وفقاً لإرادته”(29).

ويؤكد كونت أن العلم يجب أن يعنى أولاً وأخيراً بملاحظة الظواهر وتصنيفها, وألا ينظر إلى المبررات والأسباب نظرة الميتافيزيقا لها. إن العلم لا يسعى إلى الوصول إلى الحقيقة المطلقة كما تفعل الدراسات اللاهوتية. لذلك فإن المهمة الأساسية للعلم تتمثل فى الكشف عن العلاقات التى تربط بين الوقائع القائمة بالفعل, أى تحديد “القوانين” التى تحكمها. ومن خلال لذلك تمكنت العلوم الطبيعية من إحراز تقدم كبير, لذلك يتعين استخدام المنهج العلمى فى دراسة الظواهر الاجتماعية. وبهذه الطريقة يمكن القضاء على “الفوضى الروحية والأخلاقية” التى سادت فترة ما بعد الثورة الفرنسية, ليكون ذلك إيذاناً بظهور نظام جديد يسهم فى تحقيق مزيد من التقدم العلمى.

ولقد عارض كونت فكرة استخدام الإحصاء فى علم الاجتماع, على الرغم من أنه قد درس الرياضيات فى بداية حياته. وحينما نشر الإحصائى البلجيكي “كيتي ليه” Quetelet  مؤلفاً بعنوان “الطبيعة الاجتماعية”, اضطر كونت لاستخدام مصطلح “علم الاجتماع” حتى يمكن التمييز بين مضمون هذا العلم الجديد و”الإحصاءات الاجتماعية” التى كان كيتيليه يستعين بها فى دراساته. والملاحظ أن كونت قد ظل طيلة حياته ينظر إلى حساب الاحتمالات على أنه أوضح دليل على العجز العلمى, وذلك على الرغم من أن كوندرسيه  قد أوصى باستخدام نظرية الاحتمالاات فى دراسة الظواهر الاجتماعية والسياسية (30).

أما علم الاجتماع العام عند كونت « الذى كان يتخذ طابعاً موسوعياً ليضم عدداً كبيراً من العلوم الاجتماعية الأخرى» فإنه ينقسم إلى مبحثين أساسيين : الإستياتيكا الاجتماعية Social Static’s  والديناميكا الاجتماعية Social Dynamics . ولقد أولى كونت المبحث الأخير اهتماماً كبيراً. فالديناميكا الاجتماعية تمثل بالنسبة له ” نظرية عامة فى التقدم الطبيعى للإنسانية, وأنها (أى الديناميكا) تخضع لسيطرة قانون المراحل الثلاث. والملاحظ أن هذا القانون لا يحدد فقط المراحل التى يمر بها المجتمع ككل, بل يعين أيضاً مسار كل علم من العلوم, بل وكل فرد من أفراد المجتمع. أما المراحل فهى تلك التى يمر بها العقل البشرى ابتداء من المرحلة اللاهوتية, مروراً بالمرحلة الميتافيزيقية, وصولاً إلى المرحلة النهائية وهى العلم أو المعرفة الوضعية إن شئنا الدقة. ولقد اعتبر كونت أن المرحلة الأخيرة ما تزال تحقق تقدماً مستمراً (31).

x