الحدس الحسي والحدس المقولي في البحث الظاهراتي

ويُحسب لهوسرل أنه برع في وصف أفعال الوعي بدقة متناهية وتفصيل كبير بصورة لا نجدها لدى كانط، إذ اكتفى كانط بتقديم صورة عامة شاملة لأفعال الوعي ولم يتوسع فيها بقدر توسع هوسرل، إذ كان هدفه الأساسي إثبات الإمكانية القبلية للخبرة كي يحكم على الميتافيزيقا التقليدية بأنها لا تتفق مع الشروط القبلية للخبرة الإنسانية. وتتضح دقة تحليلات هوسرل في توضيحه كيفية دخول الموضوع الفيزيائي للوعي. ذهب هوسرل إلى أن الموضوع الفيزيائي يحصل على هويته كموضوع، أي باعتباره جسماً ممتداً يشغل حيزاً مكانياً وحائزاً على جوهر وأعراض بفضل وجود أفعال قبلية في الوعي قادرة على التعرف عليه وعلى جوهريته وأعراضه، أي على خواصه المختلفة ووحدته وراء تغير هذه الخواص، ذلك لأن الإدراك الحسي ينطوي على قيام الوعي بأفعال التذكر والاستعادة لمدركات حسية سابقة، وكذلك على قدرة على جمعها والدمج بينها.

أفعال الوعي عند هوسرل تنتج مضمونها، وهي لا تستقبل الموضوع المحسوس لأنه هو نفسه منتج من قبل الوعي. الوعي لا يستقبل إلا الانطباعات، أما الشئ نفسه بموضوعيته وأحواله فهو من إنتاج الوعي. ذلك لأن العلاقة بين مادة الإدراك المكونة من انطباعات والموضوع المدرك هي علاقة جزء بكل، وتجميع الأجزاء للحصول على كل هي وظيفة أفعال الوعي( )، كما أن مادة الإدراك باعتبارها جزئيات لا تحصل على هويتها باعتبارها كذلك إلا في علاقتها بالكل الذي ينتجه الوعي.

وفي هذا السياق يميز هوسرل بين ثلاثة عناصر: المادة Hyle، والشكل Morphe، وفعل الوعي Noesis. وبعد أن يوضح هوسرل نظرية أرسطو في علاقة المادة بالشكل أو الصورة يذهب إلى أن العنصرين من فعل الوعي، وكذلك التمييز بينهما( ). فمادة الإدراك ليست مدركة موضوعياً قبل انعكاس الوعي على ذاته من أجل أن يشعر بفعله المعرفي، أي قبل الكوجيتو؛ ذلك لأن مادة الإدراك الحسي ليست معطاة بالكامل وبصورة تامة في الإدراك الحسي نفسه. يقول هوسرل:

“ليست لدنيا نية للقول بأن المضمون المادي.. حاضر في الخبرة الحسية بالطريقة التي يحضر بها في الخبرة [الواعية الممتلكة للوعي بالأنا أفكر]، إنه حاضر في الخبرة الحسية باعتباره حقيقياً، لكنه لم يكن مُدرَكاً [فيها] بطريقة موضوعية [باعتباره منتجاً من قبل الوعي].”

يريد هوسرل القول بأن الشكل والمضمون باعتبارهما عنصرين للوعي مدركين من قبل الوعي الدارس لا الوعي المدروس، الوعي الممتلك للأنا أفكر؛ إنهما تجريدان وتمييزان لا يستطيع القيام بهما إلا الباحث الفينومينولوجي، وذلك بسبب كونهما عاملين على مستوى الإدراك الحسي بصورة تلقائية غير واعية، أما الباحث الفينومينولوجي فهو الذي يكتشفهما باعتبارهما نتاجين لأفعال الوعي.

تتمثل إحدى نتائج التحليل الفينومينولوجي عند هوسرل في اكتشاف أن الكلي ليس تجريداً يقوم به العقل بناء على تعميم إدراكات حسية مختلفة كما تذهب المذاهب التجريبية والإسمية، وأن الكلي حاضر في الخبرة الحسية ذاتها. ويسمي هوسرل حضور الكلي في الخبرة الحسية “الحدس المقولي” (Categorial Intuition)، و هو بذلك يميزه عن الحدس الحسي (Sensual Intuition) الذي يقتصر دوره على تلقي الانطباعات الحسية. تمتد معالجة هوسرل للحدس المقولي عبر جميع مؤلفاته ومحاضراته، إذ نجده منذ “أبحاث منطقية” (1900-1901) وحتى “الخبرة والحكم” (1939). سوف نعالج الحدس المقولي عند هوسرل في ثلاثة عناصر. العنصر الأول نوضح فيه العلاقة بين الحدس المقولي والحدس الحسي، والعنصر الثاني نوضح فيه كيف يبرر هوسرل مفهوم الحدس المقولي بالقول بأن في الإدراك الحسي فائضاً في المعنى لا يمكن أن يرجع إلى الحدس الحسي وحده وبالتالي يتطلب منا الاعتراف بوجود حدس آخر هو الحدس المقولي، والعنصر الثالث نعود فيه لتوضيح أن الحدس المقولي نفسه ليس منفصلاً تماماً عن الحدس الحسي بل هو مستوى في الوعي متضمن فيه.

الحدس المقولي عند هوسرل هو القدرة على إدراك العام والكلي المتضمن في المحسوسات في عملية الإدراك الحسي. يذهب هوسرل إلى أن هناك فرقاً بين إدراك اللون الأحمر باعتباره لوناً جزئياً متصفاً به شيئاً مفرداً، وإدراك اللون الأحمر باعتباره أحمراً بوجه عام، باعتباره نوعاً؛ إدراك اللون الأحمر في شئ معين يختلف عن إدراك كون الأحمر لوناً، أو نوعاً يندرج تحته أفراداً عديدين أو أشياء كثيرة تتصف باللون الأحمر. ويذهب هوسرل إلى أن هذا التمييز هو تمييز مقولي، لأنه ليس تمييزاً بين مدركات حسية بل تمييز بين النوع وأفراده. هناك إذن شيئان: تمييز مقولي وحدس مقولي: التمييز المقولي هو الذي يجعلنا ندرك أن هناك فروقاً بين نوع وأفراده، والحدس المقولي هو إدراك ما هو مقولي في الجزئيات، والحدس المقولي هذا يسميه هوسرل أيضاً الوعي بالكلي. لكن يقول هوسرل بعد ذلك عن التمييز المقولي إنه: “يتصل بالشكل الخالص للموضوعات الممكنة للوعي”. وهذا جانب كانطي واضح تماماً، فعلى الرغم من جدة التحليلات الفينومينولوجية التي يأتي بها هنا إلا أنه لا يزال ينظر إلى اكتشافاته الفينومينولوجية في إطار كانطي، إطار سؤال الإمكان الكانطي ونطاق القبلي الذي يجعل الوعي بشئ أو معرفته ممكنة.

كما يعني الحدس المقولي عند هوسرل أن الكليات تشاهد أو تحدس في الإدراك الحسي نفسه. ففي إدراكنا لكرسي أحمر ندرك أن الأحمر هذا لون تتصف به أشياء كثيرة غير الكرسي، وبالتالي ندرك أن الكرسي يتصف بشئ كلي وأنه جزء من مجموع ما يضم الأشياء المتصفة باللون الأحمر. الكل أو الماهية تحدس مع الجزء أو موضوع الإدراك الحسي، فهي مصاحبة له. والملاحظ أن الوعي الفينومينولوجي فقط هو الذي يستطيع أن يعرف، بالتحليل الفينومينولوجي، هذه الظاهرة. أما الوعي العادي أو الطبيعي فلا يعرفها. إدراك الجزء هو المناسبة أو الظرف الذي يمكننا من حدس الكل. ويضيف هوسرل أننا نستطيع أن نجرد من الكرسي أشياء كثيرة، أي أجزاء مكونة له مثل الأرجل ونستطيع تصوره بدونها، لكننا لا نستطيع أن نجرده من لونه. اللون شئ كلي بمعنى أنه جوهري وضروري وماهوي، أي داخل في ماهية الشئ. ماهية الشئ وجوهريته أن يكون حائزاً على لون، ولا يمكن تصور أو إدراك شئ بدون لون. اللون إذن هو الكلي أو الماهوي المدرك في إدراك حسي مع الأجزاء الأخرى.

ويذهب هوسرل إلى أن هناك علاقة تبادلية بين الإدراك الحسي والحدس المقولي، فالاثنان يؤسسان بعضهما البعض: حدس المقولة هو الذي يمكِّن الإدراك الحسي من معرفة ملامح وصفات وأجزاء الشئ بما أن هذه الأجزاء ليست مستقلة بل هي أجزاء لكل، وكذلك الإدراك الحسي هو الآخر يؤسس الحدس المقولي بما أن هذا الإدراك الحسي هو الذي يعطي الأجزاء التي يظهر فيها الكل للحدس المقولي. لقد اقترب هوسرل من هيجل هنا بالضبط في إدراكه أن هناك علاقة تبادلية قوامها التأسيس المتبادل بين الإدراك الحسي والحدس المقولي، وهذا بسبب العلاقة التبادلية التي كشف عنها هيجل بين الكل والأجزاء. الكل يدركه حدس مقولي والأجزاء يدركها إدراك حسي. إلا أن هوسرل يفهم مغزى هذه العلاقة التبادلية فهماً كانطياً على أن الحدس المقولي هو الذي يؤسس ترانسندنتالياً وقبلياً الإدراك الحسي، وهذا هو الهاجس الكانطي لديه.

هناك فرق بين المقولي (Categorical) والمقولة. المقولي هو السابق على المقولة، إنه مقولة أولية أو مبدئية، وتعبر أدوات الإشارة عنه مثل فعل الكينونة “هو” is، وكون الشئ موجوداً being و”هذا” this، بالإضافة إلى أدوات الفصل والتمييز مثل “لكن” but و”أو” or. هذه الأدوات اللغوية كلية لأنها تستخدم في كل الحالات التي نقابلها، وكليتها هذه تشير إلى أفعال معرفية قبل مقولية، أي سابقة على التجسد في مقولة، ذلك لأنها تعبيرات أولية عن مقولات الجوهر والزمان والمكان والسببية والضرورة والإمكان. ويكشف استخدام هذه الأدوات في لغة الإدراك الحسي عن أن للمقولة حضور في الحس في مستوى أولي سابق على ظهور المقولة ذاتها للفكر. هذا المستوى المقولي لا ينتمي كلية إلى الذات ومقتصر عليها بل ينتمي إلى الموضوع ذاته، وليس فعلاً للوعي، لأننا إذا حللنا الوعي سنجد أن به أفعالاً مثل الحكم والإدراك والتخيل والتذكر، والمقولي لا ينتمي إلى هذه الأشياء بل ينتمي إلى الموضوع ذاته، و هذا عكس التجريبية الإنجليزية وكانط والمثالية الألمانية التي ذهبت إلى أن هذا المقولي غير موجود في الإدراك الحسي وبالتالي فهو ذاتي وهو نتيجة للحس الداخلي أو الانعكاس على الذات. ويذهب هايدجر إلى أن الفينومينولوجيا تقوم بثورة كبيرة عندما تضع هذا المقولي في الحدس وفي الموضوع ذاته لا في الذات أو في الانعكاس على الذات.

x