الفكر الاجتماعي في المرحلة الوضعية الواقعية 2- إميل دوركايم ( الجزء 1 ) :

يعد إميل دوركايم (Emile Durkheim)[1] من مؤسسي علم الاجتماع في الثقافة الغربية، وهو الذي دعا إلى استقلالية هذا العلم عن باقي العلوم والمعارف الأخرى. كما يظهر ذلك جليا في كتابه (قواعد المنهج في علم الاجتماع). ومن ثم، أرسى دوركايم علم الاجتماع على مجموعة من القواعد، مثل: ملاحظة الظواهر المجتمعية على أساس أنها أشياء أو موضوعات مادية، يمكن إخضاعها للملاحظة الخارجية. وفي هذا النطاق، يقول دروكايم: ” إن الظواهر الاجتماعية تشكل أشياء، ويجب أن تدرس كأشياء..لأن كل ما يعطي لنا أو يفرض نفسه على الملاحظة يعتبر في عداد الأشياء…وإذاً، يجب عينا أن ندرس الظواهر الاجتماعية في ذاتها، في انفصال تام عن الأفراد الواعين الذين يتمثلونها فكريا، ينبغي أن ندرسها من الخارج كأشياء منفصلة عنا…إن هذه القاعدة تنطبق على الواقع الاجتماعي برمته وبدون استثناء.”[2]

والقاعدة الثانية أن يتحرر عالم الاجتماع بصفة مطردة من كل فكرة سابقة، بممارسة الشك المنهجي قصد الوصول إلى اليقين كما قال ديكارت (Descartes). والقاعدة الثالثة دراسة الوقائع المجتمعية التي تشترك في خواص معينة دراسة علمية موضوعية، بملاحظتها، وتصنيفها، وتفسيرها. وتتمثل القاعدة الرابعة في دراسة الظواهر المجتمعية التي تتميز بالتكرار، والاطراد، والعمومية، والجبرية، والإلزام… بملاحظتها خارجيا، بعيدا عن العوامل الفردية والسيكولوجية. والقاعدة الخامسة هي التفريق بين الظواهر المجتمعية السليمة وبين الظواهر المجتمعية المعتلة. والقاعدة السادسة هي تصنيف المجتمعات من حيث البنية والوظيفة. 

 هذا، وقد تبنى دوركايم منهج التفسير في دراسة الظواهر المجتمعية، بالتشديد على العلاقة السببية بين الظواهر المرصودة. وفي هذا، يقول دوركايم: ” فكل ما يطالب به هذا العلم هو أن يعترف الناس بأن قانون السببية يصدق أيضا على الظواهر الاجتماعية.ولكن علم الاجتماع لايقرر هذا القانون على أنه ضرورة منطقية؛ بل يقرره فقط على أنه فرض تجريبي أدى إليه استقراء مشروع.فإنه لما ثبت صدق قانون السببية في نواحي الطبيعة الأخرى، وامتد سلطانه شيئا فشيئا من العالم الطبيعي الكيميائي إلى العالم البيولوجي، ومن هذا العالم الأخير إلى العالم النفسي حق لنا التسليم بأنه يصدق أيضا على العالم الاجتماعي. ويمكننا من الآن أن نضيف الحقيقة الآتية وهي: أن البحوث التي تقوم على أساس هذا المبدأ تميل بنا إلى تأكيد صحته…

إن طريقتنا طريقة موضوعية.وذلك لأنها تقوم بأسرها على أساس الفكرة القائلة بأن الظواهر الاجتماعية أشياء، ويجب أن تعالج على أنها أشياء، ولاشك في أن مذهب كل من سبنسر وأوجست كونت يقوم على أساس هذه الفكرة نفسها. وإن وجدت لديهما على صورة مختلفة بعض الشيء.”[3]

إذاً،  يقوم المنهج التفسيري في علم الاجتماع على إبعاد الذاتية، والتخلص من النزعة الـتأملية في البحث، واستعمال التجريب، وتكرار الاختبارات، والاحتكام إلى الجبرية الاجتماعية التي تستند إلى الحتمية، والعمومية، والضغط الخارجي،  والعقاب المجتمعي، والابتعاد عن التصورات المسبقة، والتخلص من الأفكار الشائعة بنقدها وغربلتها علميا وموضوعيا. وفي هذا، يقول دوركايم:”إن القاعدة التي ننطلق منها لاتفترض أي تصور ميتافيزيقي، ولاتتتضمن أي نظر تأملي في كنه الموجودات.إن ما تطلبه هو أن يضع عالم الاجتماع نفسه في وضع فكري شبيه بالوضع الذي يكون عليه الفيزيائيون والكيميائيون والفيزيولوجيون، حينما ينخرطون في استكشاف منطقة مجهولة عن ميدانهم  العلمي.فعلى عالم الاجتماع، بدوره، وهو يحاول النفاذ إلى المجتمع أن يعي بأنه ينفذ إلى عالم مجهول.وعليه، أن يشعر بأنه، أيضا، إزاء وقائع غير منتظرة مثلما كائن عليه وقائع الحياة، قبل أن تتشكل البيولوجيا كعلم.”[4]

يقوم التصور الوضعي عند دوركايم على التخلص من الخطاب التأملي الذاتي والفلسفي، وتبني مناهج العلوم الطبيعية المبنية على التجريب، والملاحظة الخارجية الدقيقة، والمقارنة العلمية (التجربة غير المباشرة)، أو الارتكان إلى الخطوات المنهجية التالية: التعريف بموضوع الدراسة، وملاحظة الظواهر بإعادة بنائها بناء علميا، وتنظيم الوقائع في ضوء استكشاف العلاقات التي تتحكم في المتغيرات المستقلة والتابعة، والالتزام بالخاصية العلمية للفرضية السوسيولوجية.

 وعليه، يعتمد الموقف الوضعي على منهجية استقرائية تجريبية، وينطلق من مشكلات اجتماعية، وفرضيات علمية، والاستعانة بالتجريب التكراري والترابطي، واستثمار الإحصاء الرياضي، واستخلاص القوانين والنظريات. وفي هذا، يقول السوسيولوجي الفرنسي كلود بابييه (Jean Claude Babier):” إن السوسيولوجيا هي علم، وذلك بالتحديد، لأن من يمارسون البحث السوسيولوجي يسعون إلى القيام به بروح علمية…فالسوسيولوجيا تسعى إلى تحديد الثوابت والقواعد التي تتمفصل ضمن نظريات أو أبنية نظرية. وذلك من أجل كشف الظواهر الاجتماعية الي تقدم نفسها لعلماء الاجتماع ولمعاصريهم، بوصفها مشكلات اجتماعية.


x