الفكر الاجتماعي في المرحلة الوضعية الواقعية 1-اوكست كونت ( الجزء 1 )

يعد أوجست كونت(Auguste Comte)[1] من أهم السوسيولوجيين الذين تبنوا منهج التفسير في دراسة الظواهر السوسيولوجية، وفق أربعة إجراءات أساسية هي: الملاحظة، والتجربة، والمقارنة، والمنهج التاريخي، مستلهما آليات الكيمياء والفيزيولوجيا. وفي هذا الصدد، يقول نقولا تيماشيف، في كتابه(نظرية علم الاجتماع: طبيعتها وتطورها):” أنكر كونت – بغض النظر- عن تعليمه الرياضي الراقي- إمكان التطابق بين المنهج الوضعي واستخدام الرياضيات والإحصاء.

أما دعوى أن المعالجة الرياضية للعلوم الاجتماعية لازمة حتى يمكن اعتبارها علوما وضعية، فتمتد جذورها إلى علماء الطبيعة.وتنبعث من تعصب مؤداه أنه لايوجد يقين خارج نطاق الرياضيات. وقد كان هذا التعصب طبيعيا ومنطقيا في الوقت الذي كان فيه كل ماهو وضعي ينتمي إلى مجال الرياضيات التطبيقية، كما أن هذه الميادين الوضعية جميعا لم تكن تنطوي على ماهو غامض وتخميني، لكن هذا التعصب أصبح غير منطقي ولا مبرر له منذ ظهور العلمين الوضعيين العظيمين: الكيمياء والفيزيولوجيا، حيث لايلعب التحليل الرياضي فيهما أي دور، ولايقلا يقينا وضبطا عن العلوم الأخرى..

فكيف نستقي المعرفة الوضعية-إذاً- في رأي كونت ؟ ذكر كونت أربعة إجراءات هي: الملاحظة، والتجربة، والمقارنة، والمنهج التاريخي، مؤكدا أن الملاحظة أو استخدام الحواس الفيزيائية يمكن تنفيذها بنجاح إذا وجهت عن طريق نظرية، وفي مجال أساليب الملاحظة لم يظهر إلا أقل تقدير للاستبطان،…وقد كان كونت مدركا أن التجربة فعليا وواقعيا تكاد تكون مستحيلة في دراسة المجتمع…كما أكد إمكانية عقد المقارنات التي تعيش معا زمنا بعينه، وبين الطبقات الاجتماعية داخل المجتمع الواحد.

أما المنهج التاريخي، فإنه عند كونت، البحث عن القوانين العامة للتغير المستمر في الفكر الإنساني، وهي نظرة تعكس الدور المهيمن للأفكار، كما تبدى ذلك في قوانين المراحل الثلاث، ولايشترك منهج كونت التاريخي إلا في القليل من نواحيه مع المناهج التي يستخدمها المؤرخون الذين يؤكدون العلاقات السببية بين الوقائع الملموسة، ويقيمون قوانين عامة كيفما اتفق…”[2]

ومن جهة أخرى، يعد كونت من رواد الوضعية (Positivisme) الذين أسسوا علم الاجتماع على أسس علمية تجريبية، اعتمادا على الملاحظة، والتجربة، والمقارنة، والتاريخ. ووضع قانون المراحل الثلاث الذي يتمثل فيما يلي:

u قانون المرحلة الدينية أو اللاهوتية: كان الإنسان، في هذه المرحلة، يفكر بطريقة خيالية، وإحيائية، وأسطورية، وخرافية، وسحرية، وغيبية، ودينية؛ وكان يفسر ظواهر الطبيعة وفق قوى خفية مصدرها الأرواح، والشياطين، والعفاريت، والآلهة، ولم يكن هناك أدنى اعتراف بالحتمية التجريبية أو العلمية، فالقانون الوحيد هو الصدفة فقط.

vالمرحلة الميتافيزيقية: انتقل الإنسان، في هذه المرحلة، من الميتوس والخيال إلى اللوغوس والفكر المجرد، وبدأ يهتدي بالتأمل الفلسفي، واستخدام العقل والمنطق، والاستدلال البرهاني، والحجاج الجدلي، وتواكب هذه المرحلة الفكر الفلسفي الميتافيزيقي من مرحلة الفلسفسة اليونانية حتى القرن التاسع عشر؛ قرن التجريب والاختبار والوضعية. وكان الفلاسفة يرجعون الطبيعة إلى أصول ومبادىء كامنة في تلك الظواهر، كتفسير ظاهرة النمو في النبات إلى قوة النماء، وظاهرة الاحتراق بإله النار…

 wالمرحلة الوضعية: في هذه المرحلة، تجاوز العقل الإنساني مرحلة الخيال والتجريد، وبلغ درجة كبيرة من الوعي العلمي، والنضج التجريبي؛ إذ أصبح التجريب أو التفسير منهج البحث العلمي الحقيقي، ثم الارتكان إلى المعرفة الحسية العيانية، وتكرار الاختبارات التجريبية، وربط المتغيرات المستقلة بالمتغيرات التابعة ربطا سببيا، وذلك في ضوء مبدإ الحتمية أو الجبرية العلمية. وتعد هذه المرحلة أفضل مرحلة عند أوجست كونت، وهي نهاية تاريخ البشرية.

وتوافق كل مرحلة من هذه المراحل تطور الإنسان من الطفولة حتى الرجولة، إذ تتوافق المرحلة اللاهوتية مع مرحلة النشأة والطفولة، وتتماثل مرحلة الميتافيزيقا مع مرحلة الشباب والمراهقة، وتتطابق مرحلة الوضعية مع مرحلة النضج والرجولة والاكتمال.

وتبقى هذه الصيرورة التاريخية صيرورة نسبية وإيديولوجية؛ لأن جميع المراحل والمجتمعات الإنسانية قد أخذت بهذه الأنماط التفكيرية الثلاثة حتى لدى الشعوب القديمة. وإذا أخذنا الفكر العربي في العصر الوسيط، فنجد اهتماما كبيرا بالفكر الوضعي التجريبي. وفي الوقت نفسه، كان الفكر اللاهوتي والميتافيزيقي سائدين ومتجاورين  في المجتمع جنبا إلى جنب. ثم، لايمكن للفكر أن يتوقف في لحظة معينة، كتوقف التاريخ عند فوكوياما، أو توقف المجتمع البشري عند كارل ماركس حينما يصل إلى المرحلة الشيوعية. ومن جهة أخرى، ألفينا الوضعية العقلانية قد ساهمت في ظهور فلسفات غير وضعية وغير عقلانية، مثل: السريالية، والفرويدية، والوجودية، والتأويلية، والتحليلية المنطقية…

هذا، وقد أسس كونت الفيزياء الاجتماعية، ثم استبدلها بعلم الاجتماع(Sociologie).وبعد ذلك، أصبح هذا المصطلح شائعا في الثقافة الغربية، ثم تمثلته الثقافات الكونية الأخرى. وفي هذا، يقول كونت:” لدينا الآن فيزياء سماوية، وفيزياء أرضية ميكانيكية أو كيماوية، وفيزياء نباتية، وفيزياء حيوانية، ومازلنا في حاجة إلى نوع آخر وأخير من الفيزياء وهو الفيزياء الاجتماعية، ذلك العلم الذي يتخذ من الظواهر الاجتماعية موضوعا للدراسة باعتبار هذه الظواهر من روح الظواهر العلمية والطبيعية والكيميائية والفسيولجية نفسها من حيث كونها موضوعا للقوانين الثابتة[3]“.

وقد قسم أوجست كونت علم الاجتماع إلى قسمين: قسم ستاتيكي يدرس الظواهر المجتمعية في حالتها الساكنة والثابتة والنسبية، كدراسة النظم الاجتماعية الجزئية (النظام الأسري، والنظام التربوي، والنظام السياسي، والنظام الاقتصادي…)، بالتركيز على العلاقات الترابطية والسببية بين المتغيرات ؛ وقسم ديناميكي، يدرس التغير وحركة المجتمع عبر الصيرورة الزمنية أو التصور الدياكروني والتاريخي.

علاوة على ذلك، فقد صنف كونت العلوم إلى ست مجموعات: أولها الرياضيات، ثم الفلك، والفيزياء، والكيمياء، وعلم الحياة، وعلم الاجتماع أو الفيزياء الاجتماعية. وبالتالي، فالرياضيات مفتاح العلوم جميعا، أما علم الاجتماع، فهو آخرها وتاجها جميعا، و” تلك حقيقة، إذ إن الرياضيات هي أول العلوم، فقد توصل إليها اليونانيون، ثم تلاها علم الفلك الذي ظهر على يد كوبنرك وكبلر وغاليلو، ثم الفيزياء التي ظهرت في القرن السابع عشر عند لافوازييه (Lavoisier)، ثم علم الأحياء في القرن التاسع عشر عند بيشات (Bichat) وغيره، وأخيرا علم الاجتماع في القرن التاسع عشر على يدي أوغست كونت.”[4]

ويلاحظ أن أوجست كونت قد صنف العلوم من المجرد(الرياضيات) إلى المحسوس العياني (علم الاجتماع).

وعليه، فقد جاءت وضعية أوجست كونت حلا للفوضى التي كانت تعيشها فرنسا إبان انتصار الثورة الفرنسية على الإقطاع، فنتج عن ذلك مجموعة من الاضطرابات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وعرف المجتمع انقساما وتفككا وتصدعا وفوضى عارمة. لذلك، حاول كونت أن يوفق بين النظام والتقدم، أو بين رغبات المجموعة المحافظة، ورغبات البورجوازية التي كانت تناصر الثورة. لذا، جاءت الوضعية للدفاع عن النظام والتقدم، وتوظيف العلم لتحقيق أمن المجتمع وسلامته. لكنه لم يوظف الفكر العلمي باعتباره نظرية لتحقيق ذلك، بل استخدمه سلاحا إيديولوجيا ليس إلا. وفي هذا، تقول وسيلة خزار:” وعلى الرغم من إيمان كونت بالمنهج الوضعي، إلا أنه لم يلتزم أساسياته، بل حوله إلى سلاح إيديولوجي، فقد حاول إقصاء الجماهير عن إدارة المجتمع وتنظيمه، وعن رسم السياسة العليا له، على أساس أن هذه الوظيفة هي وظيفة علماء الاجتماع وخبراء التنظيم؛ فهذه الصفوة هي السلطة النهائية القادرة على رسم الطريق الصحيح لتحسين حالة أبناء الطبقات الدنيا، وذهب إلى أنه ليس من حق الجماهير التساؤل عن أشياء تعلو قدراتهم ومؤهلاتهم”.[5]

وهكذا، يتبين لنا بأن وضعية كونت، على الرغم من طابعها العلمي، فهي تحيز واضح إلى ماهو محافظ وساكن وثابت، مع رفض التغيير باسم الثورة، بيد أنها تقبل الإصلاح. وفي هذا السياق، يقول نبيل السمالوطي:” الوضعية في الوقت ذاته فلسفة إيجابية كما يدل على ذلك اسمها(Positivisme). والإيجاب هنا يعني قبول الأوضاع الراهنة، والوقوف منها موقف الرضا والتأييد، والعمل على الدفاع عنها ضد أي اتجاه. أي: إلى تغييرها تغييرا جذريا، فالوضعية لم تكن تعارض الإصلاح، بل التغيير، ولكن ذلك كله كان يجب أن يتم في إطار ماهو قائم وما هو موجود، محاولة كسر هذا الإطار والثورة عليه كانت مخالفة تماما لروح الفلسفة الوضعية.”[6]

وخلاصة القول، اهتمت الوضعية عند أوجست كونت بدراسة الظواهر النسبية غير المطلقة، بالتوقف عند العلاقات الثابتة بين الوقائع والظواهر، في إطار ترابطها السببي، بغية استخلاص قوانينها وقواعدها النظرية والتطبيقية. ومن ثم، يمكن القول بأن أوجست كونت يعد من أهم مؤسسي علم الاجتماع الوضعي، ومن السباقين إلى الأخذ بمنهج التفسير في دراسة الظواهر المجتمعية، بتمثل منهجية الفيزياء والبيولوجيا والفيزيولوجيا والكيمياء في التعاطي مع الظواهر المادية، مع الاعتماد على مجموعة من الخطوات العلمية، مثل: الملاحظة، والتجربة، والمقارنة، والتاريخ.



x