الفكر الاجتماعي لبعض الفلاسفة المسيحيين

1- القديس اوغسطين : 

القـديس أوغسطين Saint Augustin، اسمه اللاتيـني أوريليـوس أوغسطينـوس Aurelius Augustinustinas، لاهوتي من آباء الكنيسة اللاتين، يعد رائداً للفلسفة المسيحية في العصر الكنسي الذي يمتد من القرن الثاني حتى القرن السادس الميلاديين. ولد في طاجسطا Thagaste (سوق أهراس تبعد 100كم عن مدينة عنابة في الجزائر اليوم)، من أب وثني وأم مسيحية هي القديسة مونيكا، التي لقنته تعاليم الدين الأولى. وفي قرطاجة، خالط أتباع الفرقة المانوية[ر]، وظل يحضر حلقاتهم مدة تسع سنوات (374-383)، ثم رحل من إفريقية واستقر في رومة. انتقل بعدها إلى ميلانو حيث تأثر بالمذهب الريبي (الشك)، ثم مال عنه إلى الأفلاطونية المحدثة[ر] وانتقل من الشك إلى اليقين أي الإيمان، فاعتنق المسيحية سنة 386، وتعمد سنة 3877 في ميلانو. وقفل عائداً إلى رومة ثم إفريقية حيث سمي راهباً، ثم أسقفاً لمدينة إيبونا (عنابة اليوم) سنة 396.

كانت ثقافة أوغسطين لاتينية غايتها إتقان البلاغة وتعقب أثر السلف. تميز أسلوبه بالعمق وبلغ الغاية في تحليل النفس الإنسانية، وما تطمع إليه من يقين في امتلاك المعرفة. ورأى أوغسطين أن طلب الحكمة يبدأ بالإيمان. بالاستناد إلى نص الإنجيل: «إن لم تؤمنوا فلن تفهموا» (أشعيا6:8). لهذا وَحَّد بين الإيمان الديني واليقين العقلي في فعل المعرفة، ورأى بأنه «يمكن أن يوجد إيمان دون أن يوجد علم، ولكن لا يمكن أن يوجد علم دون إيمان». فالإيمان مصدر المعرفة ومنبع اليقين القائم على سلطة الكتاب المقدس، فوضع أوغسطين منهجه في المقولة الشهيرة: «اعقل كي تؤمن، وآمن كي تعقل». تلك التي عبر عنها القديس أنسلم في القرن الحادي عشر الميلادي «بالإيمان الباحث عن العقل».

ينقسم العالم عند أوغسطين إلى عالم محسوس وعالم معقول. والتقدم في درب الحكمة إنما يتجه نحو الأعلى، نحو العالم المعقول. ويبدو أن المُثُل الأفلاطونية قد أصبحت في هذا العالم أفكار الإله، الذي يجمع في ذاته كل الحقائق، والذي يوجد الأشياء على مثال معقولاتها. والحقيقة الثابتة تشرق على العقل من العالم الروحي، هذا حين تكون البصيرة قد زكت بالإيمان. فالنفس الإنسانية صورة الله، وهي جوهر روحي مفكر، يدرك المدركات المعنوية بإشراق من الله، فالله هو المعلم الباطن، وهذه هي نظرية الإشراق عند أوغسطين.

أما أشهر مؤلفاته فهي:

ـ الاعترافات: وقد كتبه سنة 400، وهو تحليل لتاريخه الروحي والفكري، ورواية انقلابه إلى المسيحية. وعلاقاته بأوساط الأفلاطونية المحدثة. وقد حلل فيه أيضاً طبيعة  الإله الروحية والنفس البشرية، كما درس مشكلة الشر. ورأى أنّ الإله هو الوجود الحق دون سواه، لأنه لايعرف التحول والتغير أما وجود الأشياء فإنه وجود عابر ومتغير. وقد صرح أوغسطين بأن الموجودات في عالم الفساد صالحة في الجوهر مع أن الشر ملازم للمخلوقات بوصفه جزءاً من النظام الكوني. وأعلن أن معرفة الذات لاتتم إلا عبر الذاكرة الإنسانية.

ـ مدينة الله (412- 427): ألف أوغسطين هذا الكتاب إثر نهب رومة عام 410، حين كانت الانفعالات في أوجها، واستوجبت أن يتحدث الناس عما يشبه يوم القيامة. وقد حمّل أوغسطين آلهة رومة الوثنية أسباب الهزيمة ورآها مسؤولة عن هذه الكارثة الهائلة. فدرس تاريخ رومة ومدح الأجداد العظام، ثم حلل الانحطاط الذي أصابها  وعزاه إلى فساد الحاكم الذي كان سبب تدمير المدينة. ورأى أن الشعب المختار سوف ينتصر لأنه يفضي إلى الكنيسة الكونية التي أقامها المسيح. وميز أوغسطين بين المدينة الأرضية التي تقوم على حب الذات الذي يقود إلى انتهاك حرمة الإله وبين المدينة السماوية التي يجب أن تقوم على حب الله واحتقار الذات. ورفض أوغسطين في هذا الكتاب نظرية «قِدَم العالم» الأرسطية، وعرض نظرية الخلق بالمساوقة للكل بما في ذلك الزمان. أما في مجال الأخلاق فرأى بأن حب الخير هو المبدأ الديناميكي الأساسي لكل الأخلاق. ويُعثر في هذا الكتاب على إرهاصات الكوجيتو (أنا أفكر) الديكارتي.

وتجدر الإشارة إلى الأثر الحاسم لفكر أوغسطين الذي نهجه معظم لاهوتيي العصر الوسيط، فارتسمت وفقه معالم الفكر عند سكوت أريجينا والقديس أنسلم والأكويني. وبدأت مرحلة السعي للتوفيق بين الإيمان والعقل والجمع بين الفلسفة واللاهوت. فأُعطي بهذا الجمع البعد العالمي للمسيحية بعد تلاقحها مع الفكر اليوناني ذي الطابع الأفلاطوني.

x