المساهمات النظرية التي قدمها رواد النظرية الظاهراتية

لم يكن شوتز معروفا ً إبان حياته إنما اشتهر بين علماء الاجتماع بعد وفاته ، حيث انتبه علماء الاجتماع المعاصرون و المحدثون إلى عمله عن الفعل الاجتماعي و أعماله حول ” علم الظاهرات ”

ولد شوتز في فينا ــ النمسا ــ عام 1899م و توفي عام 1959 درس في جامعة فينا و حصل على إجازة في القانون ، ثم اشتغل موظفا ً في المصارف المالية ( البنوك ) لكن هذا العمل لم يشبع طموحه المعرفي و لم يشكل معنى للعمل في الحياة ، بيد أنه وجد في دراسة الظواهر الاجتماعية متعة معرفية تشبع طموحه العلمي .
و لم يكن أكاديميا ً حتى عام 1920 م و كان لديه أصدقاء محاضرون غير رسميين يلتقي بهم و يناقشهم بأفكار ماكس فيبر المتأثر بها ، و بالذات تظرية الفعل الاجتماعي و النموذج الأمثل ، و بالفيلسوف ادموند هورسل و هنري برجسون ، لذا كانت إسهاماته في المدرسة النمساوية الاقتصادية منطلقة من الفعل الاجتماعي .

هذه المؤثرات قادت شوتز إلى نشر كتاب عن علم الظواهر للعمل الاجتماعي في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1932 م الذي لم يرتجم إلى اللغة الانجليزية حتى عام 1967 م أي تأخرت ترجمته 35 عاما ً .

و لما وقعت الحرب الكونية الثانية عمل في باريس ونيويورك كقنصل قانوني في عدة مصارف مالية ، بذات الوقت كان يمارس الكتابة عن الظواهر الاجتماعية مع إلقاء محاضرات حول الموضوع ذاته ، و عن النظرية و البحث الاجتماعي في مدرسة البحوث الاجتماعية في مدينة نيويورك عام 1943 م .
و في نفس العام كتب في النظرية و البحث الاجتماعي و في عام 1956 م توقف عن عمله في المصارف المالية و تفرغ للعمل التدريسي و الكتابة حول الظواهر الاجتماعية فأثر على اتجاهات طلبته العلمية أمثال بيتر برجر و توماس لوكمان و هارولد جارفنكل ، هذا التأثير منحه الدخول إلى صلب النظرية الاجتماعية ، و في نهاية مطاف حياته أدرك أن مفردات و إيقاعات الحياة اليومية ذات صلة بالمعطيات الثقافية و التاريخية و لا يود فصل بينهما فضلا ً عن ذلك لم يكن متفائلا ً من نظرته للحياة الاجتماعية .

المفاهيم التي تشتملها النظرية :

تركز النظرية على مفهومها الأكبر ” التخلل الذاتي أو الذوات المتداخلة ”
و التي تعني إجابات عن التساؤلات الآتية :
1 ــ كيف نعرف أفكار الآخرين ؟
2 ــ كيف نعرف أنفسنا ؟
3 ــ كيف يتم تبادل رؤانا و إدراكاتنا مع الآخرين ؟
4 ــ كيف يحصل التفاهم المشترك بين المتفاعلين ؟
5 ــ كيف يتصل الفواعل فيما بينهم ؟

معنى ذلك أن تداخل ذوات الفاعل لا يحصل بشكل منفرد أو من جانب واحد بل يتطلب حضور الآخر أولاً ، و طرح أفكار و آراء يتم نقاشها ثانيا ً و تبادل التفاعل بينهم ثالثا ً ( ساعتها يحصل تبادل المشاعر بينهم حبا ً أو كرها ً ، ودادا ً أو بغضا ً ، إعجابا ً أو استعلاء ) و من ثم يحصل تبادل الذوات بين الفاعل و الحضور .
بتعبير آخر يشترط حضور الآخرين حيوية مفعمة بوساطة نقاشه معهم و استماعهم له و محادثته إليهم و تفاعلهم معه في فترة زمنية معينة ، و بقعة جغرافية معلومة الأبعاد ، آنذاك يتبلور التخلل الذاتي . •

مفهوم نظري آخر :

و بناء على حالة ” التخلل الذاتي ” طرح شوتز مفهوما ً آخر في نظريته ليتكامل مع مراد بنائه النظري ، و هو ” النمذجة ” حيث يدخل إلى مدار أوسع ليسبر غور تصانيف الحياة الاجتماعية للآخرين ، الذين يصنفهم حسب معرفته الذاتية لسلوكهم و أقوالهم و أفكارهم و أشكالهم فيسمهم بسمات تحددها معرفته المحيطية التي غالبا ما تتبلور عن :
1 ــ طريقة عيشه في محيطه الاجتماعي .
2 ــ و علائقه المتنوعة مع زملائه و أصدقائه و أقاربه .
3 ــ و أهدافه الثقافية .

أي بوساطة التخلل الذاتي يستطيع الفاعل تشكيل نموذج فردي اجتماعي ، يضم صفات المتفاعل معه يختزل فيه سيرته الذاتية أو سماته الشخصية ، أو نمط تفكيره بصفة عامة و شاملة ، تغطي أغلب صفاته السلوكية أو الفكرية الظاهرة و الباطنة ( أي يسمه بسمة تفسر معظم صفاته التي عثر عليها أو لمسها أو تفاعل معها ) كأن يسمه بأنه طيب القلب أو غليظ القلب أو حسود أو كريم النفس و سواها .

أي نمذجة سلوك الناس الذين يتفاعل معهم و يتخلل ذواتهم و بهذه الكيفية تكون النمذجة ممثلة لحكم ذاتي يتضمن معايير ذاتية ــ اجتماعية تعكس تأثيرات المحيط الاجتماعي الذي يعيش في وسطه الفاعل .

أما وسيلة التعبير عن النمذجة فهي اللغة إذ شبهها شوتز ببيت المال لتعطي معنى و دلالة عن النموذج الذي نحته أو شكله أو بناه الفاعل في تفاعله و تخلله الذاتي مع الآخر .
علما ً بأن المحيط الاجتماعي للفاعل يلعب دورا ً حيويا ً في اختيار العبارات اللغوية التي تصور ذلك النموذج الذاتوي الذي تبلور بوساطة تخلل ذوات الفاعل .

مفهوم نظري ثالث :
بالإضافة إلى ما سبق من مفاهيم ، فهناك مفاهيم أخرى منها ما ذكره شوتز عن ” ذخائر الخبرات ” التي شبهها بكتاب الطبخ الذي تجد فيه ربة البيت مقادير طبخ الطعام و كيفية إعداده و تقديمه على شكل طبق شهي جاهز للأكل .
أي أن ما يسجله الفاعل من خبرات ذاتية مع الفواعل الذي يتفاعل معم لا يقوم بتكديسها لتكون تراكما ً من الخبرات بل يصنفها حسب أنواعها و طبيعتها .

فالفاعل اللئيم على سبيل المثال يتسم بصفات تحددها خبرته مع الآخرين من هذا النوع من الفواعل , و غالبا ً ما تلعب معايير محيطه و ثقافته و علائقه المتنوعة التي صادفها في حياته الاجتماعية ، فيتم تخزين هذه الخبرات عبر تنشئته الاجتماعية ( الأسرية و المحلية و الرسمية و الدينية و الثقافية ) ثم يقوم بتنصيفها و بالتالي يبلورها على شكل نماذج و كل نموذج يمثل صنفا ً متألفا ً من مجموعة خبرات ذاتية .

كما طرح شوتز كذلك عدة مفاهيم أخرى منها طريقة الإجراء أو مقادير طريقة الإعداد ، و كذلك معرفة جديدة سماها شوتز مخزون المعرفة ،كما قدم مفهوم الموقف المتشابك أو إشكالية الموقف ، بعدها طرح شوتز عدة مصطلحات اجتماعية توضح جوانب أوسع من الفعل الاجتماعي ، و هي عالم الحياة ، عالم البديهيات ، عالم الحياة اليومية ، عالم العمل اليومي ، الواقع الدنيوي ، الواقع الأسمى .

ففي مصطلح عالم البديهيات أشار إلى المواقف الطبيعية للناس التي تعني تعيينهم فيها دون أن يساورهم الشك فيها، أي مواقف مقنعة لا تقبل الطعن بسبب اختمارها و نضجها و تعود الناس على مواجهتها و تآلفهم لها .

أما مصطلح عالم الحياة اليومية فإنه يشير إلى الصفات الآتية :

1 ــ يتسم هذا العالم بتوتر إدراكي يجعل الفاعل يقظا ً و حذرا ً من الفواعل و الأحداث التي يواجهها و يتفاعل معها .
2 ــ لا يبدي الفاعل عن شكوكه في العيش في هذا العالم .
3 ــ يعمل الفواعل على معايشتهم هذا العالم .
4 ــ يمنح هذا العالم خبرة ذاتية خاصة متكاملة الجوانب .
5 ــ يبلور التخلل الذاتي بين المتفاعلين نسيجا ً اجتماعيا ً يعكس طبيعته .
6 ــ خضوع تفاعل الفواعل إلى العامل الزمني .

x