النظريات المفسرة للتنظيم الاجتماعي

أمامنا ثلاث اتجاهات نظرية ، تشكل بمجموعها العناصر الأساسية للنظرية الكلاسيكية في تفسير موضوعة التنظيم الاجتماعي (البيروقراطية) ، وهذه الاتجاهات تمثل الركيزة الأساسية لأي دارس للتنظيمات البيروقراطية . كانت وظيفة تلك الاتجاهات النظرية هو الكشف على التأثير الذي أحدثه نمو التنظيمات الكبيرة الحجم على بناء القوة في المجتمع ، إضافة الى ان ثمة اتجاهات نظرية أخرى تناولت الموضوع بأسلوب يختلف في ظاهره عن النظريات الكلاسيكية . وفيما يلي نستعرض تلك النظريات بشيء من الإسهاب :

أولا : الاتجاه الماركسي في تفسير التنظيم

إن موضوع التنظيم البيروقراطي ، لم تفرد له مساحة خاصة في فكر ماركس ، الا ان انه نظر الى التنظيمات البيروقراطية بعلاقتها ببناء القوة في المجتمع . وقد ابتدأ تصور ماركس للتنظيم البيروقراطي ، من وقوفه عند افكار هيجل Hegel  فيما يخص الدولة ، اذ كانت فلسفة الاخير تنظر الى الادارة العامة بوصفها حلقة وصل بين الدولة والمجتمع المدني ، لكن ماركس لم يقبل بهذا الشكل الثلاثي ، فغير من مضمونه تغييرا كبيرا ، اذ نرى ان الطابع الرسمي والقانوني للتنظيمات لا يعبر عن طبيعتها الحقيقية ، واصفا اياها بالمزيفة ، تتخذ من النصوص القانونية واللوائح الادارية مبررا لوجودها المزيف . فاذا كانت التنظيمات البيروقراطية عند هيجل تأخذ وظيفتها من التعارض بين المصالح الخاصة التي تعبر الجماعات ، والمصالح العامة التي تعبر عنها الدولة ، فأن هذا التعارض لا معنى له عند ماركس ، طالما ان الدولة عنده ليست راعية للمصالح العامة ، وهو شك وقدح بوجود الدولة ، يدفعه بالنتيجة الى الشك بوجود التنظيمات الرسمية . فتلك التنظيمات عند ماركس  تشكل فئة متميزة ، ووجودها يرتبط بتقسيم المجتمع الى طبقات (رغم انها لا تشكل طبقة اجتماعية ) ، ومن ثم فهي شأنها شأن الدولة لا تعدو ان تكون سوى اداة تمارس من خلالها الطبقة الحاكمة سيطرتها ونفوذها على قطاعات المجتمع ، كما يرى ماركس ، ان هذه مستقبل التنظيمات ومصالحها مرتبط عميق الارتباط بالطبقة الحاكمة ، التي بدورها تبرر وجود التنظيمات . وتجيء هنا ، وظيفة التنظيم الرسمي ، في ان تحافظ على تطبيق وفرض النظام السائد ، وتدعيم الانقسام الطبقي في المجتمع .

ويتضح ان التنظيمات البيروقراطية ـ كما يراها ماركس ـ لا تشغل وضعا مفصليا في التوزيع الطبقي للمجتمع ، ولا ترتبط بعملية الانتاج ارتباطا مباشرا ، بقدر ان وجودها وجود مؤقت ، ونموها نمو طفيلي ، ووظيفتها الاساسية كما اسلفنا ، الحفاظ على الامور السائدة من تقسيم تعسفي للمجتمع طبقيا ، ومن ثم يصبح وجود هذه التنظيمات امرا محتما ، لتمرير الممارسات الاستغلالية والتمييزية بحق الطبقة الاجتماعية الاخرى . هذا وقد ذهب ماركس الى اعتبار التنظيمات صورة من صور الاغتراب ، الذي طالما يتكرر في نظريته العامة، ويقصد به افلات القوى الاجتماعية من سيطرة الانسان ، لتحقق لها وجودا مستقلا عنه ، ثم تتحول لتصبح ضدا للانسان الذي ابتكرها ، وقد وضع ماركس التنظيمات ضمن هذا التصور ، ان راح يقول : ان التنظيمات ما ان تحقق لها استقلالها ، حتى غدت خارجة عن نطاق سيطرة الانسان ، لتصبح هالة مقدسة لا يجرؤ احدا على انتقادها او التفكير في انتقادها ، وهذا فيما يبدو واضحا في الاساطير التي ينسجها ، العاملون او الموظفون في المؤسسات كافة تجاه الرؤساء ، الذين ظنوا انهم الممثلون الحقيقيون عن الدولة.

والاغتراب عند ماركس ، لا يقتصر على العلاقة بين العاملين في التنظيمات البيروقراطية وبقية افراد المجتمع ، اذ يوجد داخل التنظيمات نفسها ، فهي تخفي طبيعتها الحقيقية ، وحتى العاملون غالبا لا يشعرون بطبيعتهم الطفيلية في الاوضاع الاجتماعية التي يشغلونها ، معتبرين انها اوضاع ضرورية لاداء المصلحة العامة من قبيل : (نريد ان نمشي الوضع ..!!! ) . ويتدعم هذا الحال التنظيمي ، من خلال فرض تعسفي لتسلسل رئاسي محدد ، واتباع دقيق للنظام ، بل طاعة عمياء له ، وتبجيل مفرط للسلطة ، وهي كلها ـ كما اوضحها ماركس ـ صور للاغتراب . واوضح ماركس ايضا ، ان في هذا السياق التنظيمي غير المتوازن ، يصبح العاملون فيه بغبغاء يرددون ما تمليه اللوائح وتعليمات الرئاسة عليهم دون أي نقد او تمحيص لها ، ومن ثم يصبحون بعيدين عن إعمال الفكر والتخيل الخلاق .

بعد هذا العرض ، يتضح ان التنظيمات البيروقراطية عند ماركس ، هي أداة بيد الطبقة الرأسمالية ، وينتفي وجودها اذا ما قامت الثورة البروليتارية ، التي تنبأ بها ماركس ، عندئذ تتلاشى الدولة وتتلاشى معها التنظيمات الرسمية ، بعد ان يظهر المجتمع اللا طبقي ، وحينئذ لن توجد بناءات اجتماعية منفصلة ومعادية لبقية المجتمع ، اذ ان كل أعضاء المجتمع سيقومون بالوظائف التي كانت تؤديها هذه التنظيمات ، ومن ثم ، تفقد الوظائف الإدارية طابعها الاستغلالي ، وبعدها تظهر إدارة للأشياء بدلا من إدارة للأفراد . وتصبح ظاهرة غير موجودة البتة ، لان تقسيم العمل الذي كان يغذيها ، قد اختفى ، وظهرت مرحلة جديدة تمثلت بالحرية الفردية المستندة الى إدارة ديمقراطية ، وتكون الوظائف الإدارية بسيطة غاية البسط ، ومرتبطة اشد الارتباط بمصالح جميع الأفراد .

ولعل التصور الماركسي للتنظيمات البيروقراطية ، يبدو اكثر وضوحا اذا ما نظرنا الى اسهام لينين في هذا الاطار . فقد اخذ لينين على عاتقه توضيح الكثير من القضايا التي اثارها ماركس ، من قبيل مثلا : ما ذهب اليه ماركس من ان القضاء على النظام البيروقراطي ، يجب ان يبدأ حينما تتأسس ديكتاتورية البيروليتاريا ، وان الصراع مع التنظيمات البيروقراطية ، يجب ان يكون من المهام الاساسية للثورة . ومنذ احداث ثورة 1917 حاول لينين تعديل ومواءمة وجهة النظر الماركسية في التنظيم البيروقراطي لكي تتلاءم مع الواقع التنظيمي ، اذ ادر كان النظام الاداري الذي ظهر بعد الثورة ، لم يكشف عن اية علامة على الانهيار ، بل كان على العكس ، يؤكد نفسه باستمرار وينمو بمعدل سريع ، وتفسيره لوجود هذه الظاهرة يعود لعدم اكتمال التحول الاشتراكي ، وما نجم عن الحرب الاهلية والحالة الفوضوية التي مر بها الاقتصاد .

هذا ولم يقف الجدل الماركسي حول التنظيمات السوفيتية عند ملاحظات لينين ، وانما نجد بعض الكتاب من امثال : برونو ريزى وبيرنهام ، حاولوا تعديل الاتجاه الماركسي ، وبدأ قبلوا وجود التنظيمات كسمة اساسية من سمات النظام السوفيتي ، ثم أوضحوا ، ان هذه التنظيمات ليست هي مجرد تعبير عن امتيازات مجموعة متسلطة ، بل انها تشكل بالفعل طبقة جديدة تميز شكل جديد من اشكال النظام ، وهو امر يختلف تماما مع تصور ماركس ذاته حول هذه النقطة تحديدا ، ومن ثم ، فأن هذا النظام الذي تحدث عنه ريزى وبيرنهام ، ليس نظاما اشتراكيا او ماركسيا بالضرورة ، كما انه ايس هو المجتمع الذي تنبأ به ماركس على وجه التحديد .

ثانيا : اتجاه ماكس فيبر ونموذجه المثالي للتنظيمات البيروقراطي

نكاد لا نجد احدا يختلف على ان ماكس فيبر اول من قدم نظرية منظمة شاملة في التنظيمات البيروقراطية ، وان الشهرة التي اكتسبتها نظريته في التنظيم ، انما تعود الى ذلك الاتساق المنطقي والصدق الميداني الى حد كبير الذي انطوت عليه نظريته . وتستند نظرية فيبر في التنظيم الى مفهوم السلطة (Authority ) ، الذي عنى به عموما : احتمال ان تطيع جماعة معينة من الناس الاوامر المحددة التي تصدر عن مصدر معين . وراح فيبر يفرق بين هذا المفهوم ، ومفهوم القوة (Power ) ، مبينا ان السلطة تتميز بأن صاحبها يتمتع بحق ممارستها ، وان من يأتمر بأوامره ، يرى ان ذلك واجبا عليه ، وبمعنى اكثر وضوحا ، ان السلطة تفترض سلفا وجود الشرعية ، التي تمنحها الاستقرار ، والجماعة هنا تكون على استعداد للطاعة ؛ لان افرادها يؤمنون حقا بأن مصدر الضبط شرعي ، وقد يكون هذا المصدر شخصيا ، او لا شخصي مثل النظام القانوني . ويرى فيبر ، ان ممارسة السلطة تفترض وجود ظرف اجتماعي ، يتمثل في الموجهات القيمية ، التي الممارسة للسلطة طابعا شرعيا ، ويظهر هذا التوجيه من خلال الجماعة ، اذ يضطر الافراد الى الامتثال لاوامر شخص اخر والتكيف معها من خلال عملية ترشيدية بسيطة أساسها حاجة الافراد الى توجيهات الاخرين . وبناءً على هذا الفهم ، قدم فيبر تصنيفا للسلطة في ضوء التوجيه القيمي العام التي يسندها ، ذلك التوجيه الذي يجد تعبيره في ايمان الناس بشرعية السلطة . فذهب الى ان هناك ثلاثة انماط للسلطة :

                                                         أنماط السلطة

                             السلطة الروحية                                  السلطة التقليدية

                                                       السلطة القانونية

ويستند النمط الاول من السلطة ، الى وجود شخص ملهم يتمتع بخصائص مميزة يصبح بمقتضاها قائدا او زعيما ، ويظهر معه او من بعده ، أعوان وأتباع يهللون له ويمجدونه ، وينسجون حوله الأساطير ، كما يقومون بدور الوسيط بينه وبين الجماهير ، ويعد الولاء والإخلاص للزعيم والإيمان بأفعاله وأعماله مصدرا لطاعته . هذا وان هناك العديد من الزعماء في مختلف مجالات الحياة الاجتماعية ، في الدين مثلا هناك الأنبياء ، وفي السياسة ، القادة السياسيون ، وأفاض فيبر في توضيح أبعاد السلطة الروحية ، شارحا كيف ان السلطة الروحية تمثل قوة رافضة للنظام القائم ، وان أتباعها يستخفون بالنظام وبقواعده ، ولعل ذلك نراه في الجماهير المتعصبة لزعيمها ، واذا ما مات الزعيم ، فان ظروفا غير طبيعية تظهر بعده من مظاهرات وتجمعات هائجة ، وتظهر كذلك الصراعات داخل صفوف الأتباع والأعوان حول من يخلف بعده ، ومن هنا يجيء دور التنظيم لإنهاء تلك الصراعات ، واتخاذ إجراءات منظمة تحدد انتقال السلطة او الزعامة الى وريث شرعي .

ويبدو ـ كما أوضح فيبر ـ ان هذا النمط من السلطة قلق في طبيعته ، طالما انه يرتبط بشخص واحد ، واذا ما أريد لهذه السلطة الاستمرار ، فلا بد تأخذ ببعض الخصائص العلمانية ، وهذه بطبيعتها تثير التغير ، الذي من شأنه ان يحول هذه السلطة الى نمط سلطة تقليدية او قانونية.

اما النمط الثاني من انماط السلطة ، فهو نمط السلطة التقليدية ، اذ يستند في تبريره الى قوة التقاليد وقدسيتها ، وبمقتضى ذلك ينظر الناس الى النظام الاجتماعي القائم بوصفه نظاما مقدسا وخالدا وغير قابل للانتهاك ، ويرتبط المحكومون بالنظام ارتباطا وثيقا من خلال الولاء له ، وبتأييد من المعتقدات الثقافية التي تدعم بصفة عامة وضع الحكام ، وقدم فيبر في هذا الاطار نماذج من هذه السلطة ، والمتعلقة بالحق الالهي للملوك ، والملكيات المطلقة ، ولكن السلطة التقليدية ، غالبا ما تجد وضعها متأزما اذا ما تعرض للتغير ، لان ذلك من شأنه ارباك النظام الاجتماعي القائم ، وقد يعرضه الى الانهيار ، كما حدث سابقا للانظمة الاقطاعية ، التي انهارت بفعل تطور طبقة برجوازية صغيرة ، لتظهر من بعدها الراسمالية . ويستند النمط الثالث من السلطة ، الذي اسماه فيبر بالسلطة القانونية ، الى الايمان والاقرار بأحقية وسيادة القانون ، ومن المفترض وجود مجموعة رسمية مستقرة من المعايير الاجتماعية تتولى تنظيم السلوك تنظيما رشيدا ، وهذا بطبيعة لا يحصل الا في المجتمعات الحضرية ، التي قطعت شوطا طويلا في التطور الصناعي والتجاري ، واخضعت كل عملياتها الاقتصادية الى منطق الرشد والعقلانية ، التي تعد من مميزات المجتمع الحضري الكامل ، كما اطلق عليه فيبر ومن ثم ، فهي من خصائص السلطة القانونية ، وتكون الطاعة لهذه السلطة لمجموعة المبادئ الموضوعية ، وليس لشخص واحد بعينة ، فضلا عن ان وضع الرئيس في مركز السلطة امر لا يتم اعتباطا وتقليديا ، وانما هناك عديد الاجراءات تتبع لكي يصبح الرئيس على ما يريد مانحي السلطة له يكون ، وليس على ما يريد هو ذاته ان يكون ، من قبيل تلك الاجراءات الانتخاب والتعيين ، وبمقتضى هذا الحال ، يمارس سلطته على الافراد والجماعات في حدود الاطر والقواعد القانونية .

وهذه الظروف العقلانية ، انما توجد ـ كما رآها فيبر ـ في التنظيمات الحديثة ، لا سيما الحكومية منها، ثم راح بعد ذلك ليسهب في مصطلح البيروقراطية ، للإشارة الى الجهاز الإداري الموجود في هذه التنظيمات . هذا وقد قدم جملة من الخصائص التي تطبع طابع التنظيمات البيروقراطية ، منها وجود قواعد محددة موضوعية تحدد بطريقة رشيدة التسلسل الرئاسي لهذا الجهاز ، بالاضافة الى ما تنظمه من حقوق وواجبات ، وفصل الادارة عن الملكية ، اذ ان موارد التنظيم ليست ملكا لاعضائه ، اضافة الى ان وظائفه لا تباع والا تورث ، ولا تضاف الى الملكية الخاصة ، كما هو الحل فيما اوضحناه في السلطتين السابقتين . وقد دفع هذا النقاش حول ماهية السلطات الى ابراز قضايا اخرى لا تقل اهمية عن سابقتها ، خاصة فيما يتعلق بمشكلة الديموقراطية في التنظيمات البيروقراطية ، وذهب فيبر الى الكشف عن العلاقة بين الرأسمالية والتنظيمات البيرقراطية  .

اقر فيبر بداءة ، ان التنظيمات ظهرت سابقا في المجتمعات القديمة ، الا انها لم تحقق ذلك النمو اللافت والمبهر الا بظهور الدولة الحديثة ، الى جانب تأثيرها الذي امتد لكل مفاصل الحياة ، سواء الدينية او التربوية او الاقتصادية بشكل ربما افرز معه حُزمة من المشكلات التي تنافت وقواعد التنظيم كما رُسم لها . فرغم وصول التنظيمات الحديثة لأقصى حالات التحكم بواسطة القواعد الرشيدة ، فأن ذلك انعكس بشكل سلبي على حرية الفرد وتلقائيته ، واستلزمت منه شخصية معينة ، يكون المتخصص خير معبر عنها . وفي معرض حديثه عن النمو التنظيمي ، فان فيبر ضمنه معنى قوالب التفكير والسلوك ، التي لا تنحصر فقط في الحالات التنظيمية ، وانما تشمل كل مجالات الحياة الاجتماعية ، ذاهبا الى هذا المصطلح ذو ارتباط وثيق بمصطلح لا يقل قيمة ، هو ذاك المتعلق بالترشيد . لكن هذا المعنى قاد فيبر لنقض نقيضه ، وهو انه فضلا عن قيمة التنظيم البيروقراطي في نقلة الانسان من حال الى حال اكثر رقيا وعقلانية وكفاءة ، فأن النمو التنظيمي فب العالم الحديث ، شكل اكبر تهديد لحرية الفرد والمنظمات الديموقراطية في مجتمعات العالم الحديث .

لا شك ، وان هذه النقطة بالتحديد ، قادته الى دراسة مشكلة الديموقراطية في التنظيمات التي المحنا اليها قبل قليل ، ليضع نفسه امام إشكالية ، تنعت بالازدواجية ، خاصة ان اساليب الالتحاق بالتنظيمات مثل : الشهادات والامتحانات …، تؤدي بطبيعتها الى ظهور ضرب من التمييز والتفرقة الاجتماعية ، وان جملة المقاييس الموضوعية ، التي تجيز الالتحاق والترقية لا تكون في العادة من صالح المتطلعين للوظائف الكبرى في التنظيم ، واذا كان ـ كما اراد لذلك فيبر ـ ان تنسجم القواعد الموضوعية مع مبدأ الديمقراطية لا سيما في مساواة الناس أمام القانون ، الا ان ذلك لم يحصل ، مما لبث بفيبر بعد ذلك ، ان يصف الحال بأنه قد يؤدي الى نتائج عكسية تماما ، اذ ان من شروط الالتحاق بالتنظيم امتلاك شهادة عليا ، وهذا الامر يكون في صالح اولئك الذين مكنتهم مواردهم المالية الخاصة من الانفاق لفترة طويلة حتى يمكنهم الحصول على هذه الشهادة ، وبهذا المعنى ، فأن النمو التنظيمي يخدش بمبدأ تكافؤ الفرص ، ويمكننا ايضا ان نعثر على ذات الازدواجية في مناسبة اخرى ، فاذا كانت القواعد الموضوعية تحمي المواطن من تعسف الموظف ، الا ان سرعان ما لبث  ان كشف فيبر عن إمكانية إحباط بعض المطالب الشعبية التي تعبر عن العدالة الاجتماعية من خلال التمسك بالجانب الشكلي فقط .

نأتي ألان ، بعد أن أوضحنا أهم القضايا والمفاهيم التي استند اليها فيبر واهتدى من خلالها الى بيان ماهية التنظيمات ، لنعرض بشيء من التفصيل ، للنموذج المثالي للتنظيم البيروقراطي الذي قدمه فيبر . ويبدو واضحا ان النشاطات والوظائف تتوزع على الأوضاع الاجتماعية بوصفها نشاطات ووظائف رسمية ، وهذا بطبيعته يستلزم تقسيم لعمل محدد وواضح بين الأوضاع الاجتماعية ، يسمح من ثم ، وجود درجة عالية من التخصص ، من شأنه زيادة الخبرة والمعرفة الفنية بين أفراد التنظيم سواء كان ذلك بطريق مباشر او غير مباشر ، ثم تنتظم كل هذه الحالات او الاوضاع الاجتماعية في نظام وبناء تسلسلي رئاسي يعبر عن السلطة ، فيتخذ هذا البناء شكلا هرميا ، يكون فيه كل رئيس مسؤولا عن اعمال مرؤوسيه مسؤولية محددة بوضوح ، هذا يستلزم بدوره توافر نسق من القواعد واللوائح التي تحكم وتنظم قرارات الفرد واعماله ، تتضح وظيفة هذا النسق الانضباطي في سير انتظام اداء نشاطات التنظيم ، ومن ثم ، فأن السلطة والنسق الانضباطي يصبحان اكثر قدرة على التنسيق بين النشاطات والعمليات المختلفة التي يؤديها أفراد التنظيم ، الى جانب انهما يتيحان استمرار أداء هذه النشاطات ، بغض النظر عن التغيرات التي تطرأ على التنظيم من حيث تغير أفراده ، وفي ظل هذه الظروف يتخذ أعضاء التنظيم اتجا لا شخصيا او لنقل موضوعي في علاقاتهم بقرنائهم وعملائهم ، كما انهم يتخلوا عن كل الاعتبارات الشخصية ، وان يحققوا الانفصال العاطفي الكامل بينهم وبين عملائهم ، بمعنى اخر الا تؤثر المشاعر الشخصية على القرارات الرشيدة التي يصدرها أعضاء التنظيم خلال تأديتهم لوظائفهم .

ولكي يتحقق ذلك كله ، لا بد ان يكتسب العمل في التنظيم طابعا مهنيا ، وهو الحال كذلك في التنظيمات الحديثة ، ويكون الالتحاق بالتنظيم وفقا لمؤهلات فنية يتعين الحصول عليها ، وغير خاضعة للانتماءات السياسية او الأصول الأسرية ، خاصة وانها تكون فاعلة في التنظيمات التقليدية ، وهو أمر نلحظه كذلك في المجتمعات التقليدية ، التي تتشوه فيها التنظيمات البيروقراطية ، وتتداخل في سير عملها الثقافة الشعبية ، وعموما يتم اختيار أعضاء التنظيم بناءً على اجراء اختبار او امتحان او الشهادات التعليمية ذاتها . مما يساعد هذا على خلق وضع طبقي متجانس بين الموظفين ، والموظفين في التنظيم يعينون ولا ينتخبون ، ولذلك فأن حياتهم المهنية على رؤسائهم أكثر ما تعتمد على الجمهور المشكل للتنظيم ، ومن خلال المركز الاجتماعي / الوظيفي الذي يشغله العضو في التنظيم ، فأن المكافأة تكون لقاء خدمة يقدمها العضو ، إذ تتخذ شكل مرتب منتظم يستمر حتى إحالته الى التقاعد .

بعد هذا العرض للسمات والخصائص التي ضمنها فيبر نموذجه المثالي ، يوجد هنالك عنصر مشترك بين هذه الخصائص ، وهو وجود نسق ضبط مستند الى قواعد رشيدة ، تحاول تحديد أبعاد البناء التنظيمي ككل. فالإدارة البيروقراطية عند فيبر ممارسة للضبط على اساس المعرفة ، وهذه السمة هي التي تجعلها رشيدة ، ومن خلال هذا المعنى ، فأن معرفة درجة بيروقراطية التنظيم هو طبيعة ونوعية القواعد التنظيمية ، وقد توجد القواعد التنظيمية في الأنظمة التقليدية ، فالإدارة الإقطاعية تستخدم تلك القواعد ، وكذا الحال في نمط السلطة التقليدية ، ولكن ما يميز القواعد التنظيمية البيروقراطية هو أن قواعدها تستند أساسا الى معرفة فنية وتفكير رشيد . وهذه خاصية يجب حصرها وإحاطتها اهتماما عند دراسة السمات او الخصائص المثالية التي يتضمنها نموذج فيبر .

ثالثا : اتجاه روبرت ميشيلز ومشكلة الديمقراطية في التنظيم

يختلف روبرت ميشليز (R.Michels ) عن كارل ماركس وماكس فيبر ، في انه قدم تحليلا للسياسة الداخلية التي تتعبها التنظيمات الكبيرة الحجم ، متأثرا في ذلك بكثير من القضايا الميكيافيلية ، وخاصة فيما يتعلق بسيطرة الصفوة ، وما يتمخض عن ذلك من ضآلة فرص ممارسة الديمقراطية ، ولتأكيد هذا الرأي الافتراضي ذهب ميشيلز الى دراسة عدد من الاحزاب الاشتراكية ونقابات العمال في اوربا ، وقبل الحرب العالمية الاولى ، مقدما قانونا ذاعت شهرته اطلق عليه ” القانون الحديدي للاوليجاركية ” ، ولكي يؤكد هذه القضية راح يدرس بصفة خاصة البناء الداخلي للحزب الاشتراكي الالماني ، الذي كان من اكثر الاحزاب قربا الى المبادئ الديموقراطية وقتئذ ، ليكتشف ، ان في داخل هذا الحزب يوجد حزبا اوليجاركيا تهيمن عليه أقلية صغيرة ، وبناءً على هذه النتيجة ، راح ميشيلز ليستنتج ان كل التنظيمات الكبيرة الحجم تشهد نموا كبيرا في جهازها الاداري ، من شأنه استبعاد وجود ديموقراطية حقيقية ، برغم ما تنادي به هذه التنظيمات من تأكيد للمساواة وتكافؤ للفرص.

وقدم ميشليز توضيحا مؤداه ، ان تحقيق الديموقراطية في التنظيمات الكبيرة امر عسير على الاقرار ؛ خاصة اذا ما نظرنا للديموقراطية ، بوصفها مشاركة كل اعضاء التنظيم في صنع القرار واصداره ، فمشاركة هؤلاء مستحيلة فنيا ، سيما وبعضهم ليس بالقليل ، انهم ينتمون الى طبقتي العمال والموظفين الذين يفتقرون الى مؤهلات فنية تخولهم اتخاذ القرار ، الى جانب ان هناك قضايا حاسمة في التنظيم تحتاج الى معرفة فنية متخصصة . وفي مقابل ذلك ، فأن قادة التنظيم يسيطرون على قنوات الاتصال وما يرتبط بها من سلطة وقوة تمنحهم القدرة على استمالة الموظفين وتغيير مواقفهم ، بل والضغط عليهم في ذلك ، مما يطعن بجوهر الديموقراطية . وبمرور الوقت واستغلال بل ومصادرة للفرص يعمد القادة الى اكتساب كل المعرفة والمهارات التي تساعدهم على تجاوز المشكلات ، ومن ثم ، يوظفون كل ذلك في خدمة مصالحهم وأهدافهم الخاصة ، هذه المصالح التي تجعلهم متشبثين بأوضاعهم التي يشغلونها . وهكذا يحدث اغتراب حقيقي عن اهداف الديموقراطية في التنظيم ، وهو ذاته يمثل الجانب السلبي للتنظيم البيروقراطي .

وفي ضوء مناقشته لقضية الديموقراطية ، فقد دفعه ذلك الى تحليل ديناميات العلاقة بين الصفوة والجماهير . إذ رأى ان وصول القادة الى مراكز القرار او القوة ، يصبحون جزءا مكملا من الصفوة ، ومن ثم ، تصبح مصالحهم متعارضة مع مصالح الجماهير ، لأنهم وقتئذ يسعون الى تحقيق مصالحهم ولو على حساب التنظيم ، وقد يقودهم ذلك ، تأثير الضغوط البنائية التي تمارس عليهم ، فضلا عن السمات السيكولوجية التي تدفعهم نحو ذلك ، وفي هذا السياق أولى ميشيلز عناية تذكر بحق السمات السيكولوجية ، فأوضح ان القائد او الزعيم الذي حصل على السلطة وتعود على ممارستها ، يجد بعد ذلك صعوبة في التخلي عنها ، ناهيك عن ان ممارسة السلطة ذاتها تترك أثرا وتحولا سيكولوجيا في شخصية القائد او الإداري ، فيزداد إيمانه بنفسه ، ويبالغ في عظمته حتى يخيل له انه هو من اوجد التنظيم ، وينسب كل الاعمال والانجازات التي تحصل في التنظيم البيروقراطي الى نفسه .

هذا ودرس ميشيلز ، الإيديولوجيات المختلفة التي تستخدمها الأقليات الحاكمة في تبرير أوضاعها ، فذهب الى أن هذه الأقليات تسعى باستمرار الى ايهام الجماهير بضرورة تحقيق الوحدة الداخلية والاستقرار حتى يمكن مواجهة ما يهدد المجتمع من أخطار خارجية ، وبناءً على هذه الايديولوجيا ، ينظر القادة الى أية معارضة تنشأ بوصفها عنصرا تخريبيا يستفيد منه الاعداء ، وقد تتبنى الاقلية الحاكمة أسطورة الديموقراطية لتجعل من القائد المنتخب انتخابا ديموقراطيا تعبيرا دائما عن إرادتها الجمعية . وهكذا نرى ان ميشيلز كان متشائما حيال المناداة بالديموقراطية ، حتى انعكس تشاؤمه على معالجة المشكلة في المجتمع ككل ، وتنبأ قبل حدوث الثورة الروسية بسقوط الديموقراطية الاشتراكية ، وأوضح ان الثورة ستتحول بعد ذلك لتصبح ديكتاتورية يمارسها أولئك القادة المهرة ، الذين بلغوا من المهارة مبلغا انتزعوا من خلالها عصا القوة والسيطرة في ظل كلمة براقة اسمها ” الاشتراكية ” . لتكون بعد ذلك كل الحركات الديموقراطية موجات متعاقبة تتحطم دائما على نفس الصخرة ، لكنها مع ذلك ما تلبث ان تعود الى الظهور من جديد . بهذه الكلمات اليائسة أنهى ميشليز نقاشه المستفز للطبقة الحاكمة .

x