ثنائيات التصنيف ( عود على بدء )

أفرغنا في المحاولة السابقة من عرض وتحليل دراسات المجتمع المحلي ، وقد قادنا الحديث في ذلك الى وصف المجتمع المحلي كوحدة للتنظيم الاجتماعي والمكاني ، يعيش ضمن حدودها جموع من الافراد ، يتفاعلون بطريقة رتيبة ومنتظمة . كما استنتجنا جملة خصائص للمجتمعات المحلية من الدراسات التي عرضناها ، واتضح ان لهذا التنظيم خصائص مميزة عن الوحدات الاجتماعية الاخرى . فكان من ابرزها : ان تنظيم المجتمع المحلي يتحدد في سياق اجتماعي ومكاني ، لان له القدرة على استيعاب كل حياة الفرد ، وتوفير متطلبات وجوده المادي ، من خلال اشباع لحاجاته النفسية والاجتماعية والاقتصادية ، الى جانب سوسه ، واخضاعه لقوة محلية ، سواء القوة التي تستند في شرعيتها على الجانب التقليدي ( الاسرة – القرابة ) ، او وجود لنمط سياسي محدث ، كالمجالس المحلية . وبناءا على هذا المعنى التخصيصي / العمومي فان المجتمع المحلي ، يمكن تمييزه كوحدة اجتماعية عن باقي وحدات التنظيم الاجتماعي , وفي الوقت نفسه يجعلنا امام كم هائل من نماذج المجتمعات المحلية المتعددة ، تنطبق عليها نفس الخصائص السالفة الذكر .

وتأسيسا على القول السابق ، يمكن الحديث عن مجتمعات محلية كالقبيلة ، والعشيرة ، والمدن الصغيرة ، وحتى المدن العملاقة ، فيا ترى ، كيف يمكن لنا ان نحدد مجال دراستنا في ضوء هذه الثنائية التخصيصية / العمومية ، ولاختصار الحديث ، فان اهتمامنا يأتي هنا للتركيز على المجتمع المحلي الحضري ، ومن هذه اللفتة تحديدا، آتت دراسات اخرى لتضع ما طرحناه في صيغة تساؤل ، مجيبة عليها بثنائيات تصنيفية لتمييز المجتمع المحلي الحضري عما سواه ، وسيتضح في قادم الحديث ، ان هناك العديد من المتغيرات ، او لنقل المحكات بلغة المختصين بهذا الشأن ، مثل الحجم وكثافة السكان ، والخصائص الايكولوجية ، الى جانب الخصائص الاجتماعية والثقافية . وسوف نعتمد في هذا السياق بعضا من الطروحات التي قدمت ، وكان من اهم الافكار التي تضمنتها ، فكرة النموذج المثالي ، وفكرة النموذج التركيبي وفكرة المتصل الريفي الحضري ، كأدوات تصورية  لتحليل المجتمع الحضري ، ويجدر بنا ونحن في صدد عرض الثنائيات ، ان نوضح ما المقصود بهذه الأدوات ، مستبعدين فكرة النموذج التركيبي ، لعدم قناعتنا باختلافه الجوهري عن فكرة النموذج المثالي .

فالمقصود بالنموذج المثالي (Ideal Type) ، تلك الصياغة التصورية ، او البناء العقلي لصيغة معينة ، تشمل عناصر مميزة لفئة محددة من الظواهر ن ويعتمد في رصد هذه العناصر على مشاهدات مستقاة من الظواهر الملموسة التي خضعت للدراسة . ومن خصائص هذا البناء النظري ، انه لا يتطابق مع أي ملاحظة مفردة ، وهذا يعني ان ثمة عناصر مشتركة تجمع عدة ظواهر ، لتشكل نموذجا يعتمد عليه ، ويرجع الفضل في استخدام هذا المفهوم الى ماكس فيبر كمنهج او اسلوب يستخدمان معا في الوصف والمقارنة واختبار الفروض . ومن أمثلة النماذج المثالية ” الانسان الاقتصادي ” ” المجتمع المحلي ” ” الدكتاتور ” ” البيروقراطية ” وهلم جرا[1] .

فالنموذج المثالي ، يعتمد على مقدمات منطقية تقود الباحث الى ملاحظات منطقية ، وهذا ما يفهم من كلمة          ” مثالي” ، وليس كما يفهم احيانا بانه ” اخلاقي “ ، او معادل لمتغير ” المتوسط “ بالمعنى الاحصائي . وعلى كل حال ، فان النموذج المثالي يقوم بوظيفتين : الاولى ، حالة او نموذج محدد يمكن من خلالها مقابلة الظواهر الملموسة ، والثانية ، تطوير تعميمات نموذجية تشكل أساس التفسير للاحداث التاريخية ، كالتي أشار اليها ماكس فيبر في دراسته المشهورة      ” الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية “ ، وكذلك رصده وتتبعه لانواع السلطة ، مع تفسيره للبيروقراطية[2] .

اما فكرة ” المتصل الريفي الحضري ” ، فهي طريقة قدمها واعتمدها ريدفيلد ، وتستند اساسا الى تصور ان أي خاصية للظاهرة تمّثل بدرجة معينة ، ان هناك تغيرات متدرجة في حجم وأهمية هذه الخاصية على المستوى التطبيقي ، بمعنى ان هناك نوع من التدرج يقوم بين خصائص الريفية والحضرية أشبه بخط مستقيم ، اذ تزداد درجة أي من هذه الخصائص او تقل تبعا لواقع كل مجتمع على حده ، وبالتالي من الممكن ان نصنف المجتمعات المحلية وفقا لوقوع خصائصها على نقاط معينة على طول هذا المتصل . هذا وتستند فكرة المتصل الريفي الحضري ، على دعوى مشفوعة بملاحظات ميدانية ، انها لا تؤكد وجود نمط ريفي بحت او نمط حضري بحت ، وانما هنالك نوع من التداخل بين النمطين من خلال تزايد او تناقص خصائص احد هذين النمطين ، ومن خلال ذلك يمكن القول : ام مجتمعا من المجتمعات اقرب الى الريفية او الى الحضرية . وهذا المعنى يقودنا أيضا الى الإقرار بان هذا التدرج في الخصائص يتزامن معه اختلافات في أنماط السلوك ، تجعل المجتمع يشذ او ينحرف عن النمط المثالي ، الذي يصنف ضمنه ، بمعنى اقرب ان مجتمعا ما اذا كان يصنف بأنه ريفي ، أصبح اليوم يصنف على انه حضري ، وبالتالي ثمة انحراف واضح عن النموذج المثالي “الريفي” مثلا .

أولا : سوروكين وزيمرمان ( الثنائية الريفية الحضرية )

لعل واحدة من أقدم المحاولات التي بُذلت لأجل تحديد خصائص المجتمعان الريفي والحضري ، تلك التي قدمها سوروكين وزيمرمان . وتتلخص محاولتهما في اعتبار معيار ” المهنة ” محكا أساسيا وأوليا لمعرفة خصائص نموذجي المجتمع الريفي والحضري ، ويقودنا الاهتمام بهذا المعيار الى معرفة معايير أخرى تعتمد جميعها في التمييز بين الريف والحضر ، وفيما يلي نستعرض هذه المعايير :

  1. المهنة :

ينظر للمهنة هنا ، بوصفها ملمحا واضحا يطغى على حياة جموع من الافراد يسكنون في بقعة جغرافية ، ويمارسون جميعهم أعمالا مهنية كالتجارة ، والصناعة ، والحرف ، والإدارة ، وبالجملة فانهم يمارسون أعمالا غير زراعية ، وهو أمر نجده مختلفا تماما عندما نقارن ذلك بالمجتمع الريفي ، الذي يغلب عليه الطابع الزراعي ويترتب على هذا الفرق الأساسي ، فروقا أخرى لا تقل شأنا في المقارنة ، لعل اهمها ما نلحظه على افراد المجتمع الريفي من ارتباطهم الشديد بالارض والجماعات القرابية . وهذه حالة قد تصلح للتفسير والاستناد عليها ، فيما اذا أخضعنا الفرد المهاجر للحضر الى الدراسة ، فاننا سنجد تعلقا وحنينا الى الارض التي ترعرع فيها ، مما يجعله اقل اعتناقا للقيم الحضرية ، التي تمثل بالنسبة اليه قيم طارئة ، والى جانب هذه الخاصية ، فان التخصص وتقسيم العمل ، لا نجده في مجتمع الزراعة . اما اذا اعدنا النظر في بنية المجتمع الحضري ، فسنجد على العكس من ذلك ، اذ هنالك تخصص وتقسيم للعمل ، وابتعاد افراده ـ أي افراد المجتمع الحضري ـ عن الانتماءات القرابية فضلا انهم ينفتحون على عوالم مهنية متعددة ، ويجدون امامهم خيارات وبدائل متنوعة تلبي رغباتهم .

  1. البيئة :

ثمة فرق اخر ، يقدمه سوروكين وزيمرمان ، ذلك الذي يتعلق بعلاقة الانسان بالبيئة ، ونظرا للطابع الزراعي الذي يخيم على طبيعة المجتمع الريفي ، فان الفرد فيه يطاوع تأثيرات البيئة ويخضع لها دون ان يخضعها له ، ورغم سلبية هذا الجانب ، الا ان الفرد الريفي يحبب هذه العلاقة ويعتبرها اوثق العلاقات ، الى حد وصف ” الارض بالشرف” اذا ضاعت منه ضاع شرفه ، لكن اذا ما نظرنا الى المجتمع الحضري فان مما لاشك فيه ان الفرد الحضري يجعل البيئة رهن مطاوعته ، ومع هذا الفرق في العلاقة مع البيئة لدى الريف والحضر ، فان ثمة مشكلات بيئوية تظهر في المجتمع الحضري على العكس في المجتمع الريفي ، وهذا يعود الى الاستخدامات البشرية للبيئة . وفيما يلي نبين ذلك في ترسيمات توضيحية :

رسمه (3) توضح علاقة الإنسان بالبيئة الحضرية              رسمه (4) توضح علاقة البيئة بالإنسان الريفي

(الرسمه من تصرف الباحث )

 

  1. حجم المجتمع :

لاشك ان متغير الحجم هو الآخر أثار جدلا فيما اذا استخدم للتمييز بين الريفي والحضري ، وفي هذا السياق فهل يطبق الحجم على المساحة التي يشغلها المجتمع ، ام هو عبارة عن مجموع أفراده ؟ وللوقوف على زبدة الموضوع ، بعيدا عن جدليته ، فأن سوروكين وزيمرمان وغيرهم من الباحثين أمثال : لويس ويرث ، نظروا الى الحجم كمحك للتمييز بين المجتمعين الريفي والحضري ، فثمة علاقة عكسية بين الريفية والعمل الزراعي وبين حجم المجتمع ، فكلما صغر حجم المجتمع ازدادت الريفية ، في حين وعلى النقيض من ذلك يتميز النموذج الحضري بكبر حجمه النسبي ، ومن ثم فأن هناك علاقة طردية بين الحضرية واتساع الحجم ، بمعنى اخر كلما ارتفع حجم المجتمع ارتفعت معه الحضرية .

  1. كثافة السكان :

وبناءا على المعنى السابق ، فأن الكلام أعلاه ينطبق من حيث العلاقة فيما يخص كثافة السكان ، فهنالك علاقة عكسية بين الريفية وانخفاض السكان ، الى جانب وجود علاقة طردية بين الحضرية وارتفاع الكثافة السكانية .

  1. التجانس والتغاير :

اتضح من جملة ما اشرنا اليه سابقا ، ان المجتمع الريفي مجتمعا قد يخلو تماما من أي تنوع عرقي ، بسبب العلاقات القرابية القوية ، التي تجد منبعا لها في العصبية القبلية ، وعلى هذا الأساس فان تجانس الافراد في الريف أمر واضح تماما ، ولعل هذا يرتبط أيضا بعاملي الحجم والكثافة السكانية اللذين سبق الحديث عنهما . وعلى العكس من ذلك فان ضخامة البيئة الحضرية واتساع الخيارات في إقامة العلاقات الاجتماعية ، بسبب التخصص وتقسيم العمل فان كل ذلك يدعوا وصف المجتمع الحضري بأنه مجتمع غير متجانس .

  1. التمايز الاجتماعي والتدرج الطبقي :

إن انساق المكانة والتدرج الطبقي ، تختلف بين نموذجي المجتمع الريفي والحضري ، ويرجع ذلك الاختلاف في نظر سوروكين وزيمرمان الى الاختلاف في مصادر التركيب المهني . ففي المجتمع الحضري ترتكز انساق التدرج الطبقي على العلاقات الاجتماعية الثانوية . اما في المجتمع الريفي فيلاحظ ان التمايز والتدرج الطبقي مسائل شخصية ، لان الشخص في مجتمع القرية بإمكانه ان يمارس مهنة الآخرين ، ومن ثم فليس هنالك أي تمايز اجتماعي في هذا السياق . في حين نجد ان الحياة الحضرية تفرض على الفرد ان يبقى في موقع محدد وليكن في طبقة دنيا ، لان معايير الحضرية تتطلب ان يجتهد المرء كثيرا في استحصال المصلحة المادية ، ومن ثم فان هذا من شأنه ان يحسن ويرفع من قيمة مستواه المعيشي والتعليمي ، ليكون أساسا في ارتقاء الفرد من طبقته الدنيا الى أعلى .

  1. الحراك والتنقل :

يرتبط موضوع التمايز والتدرج الطبقي بطبيعة الحراك والتنقل لاسيما في المجتمع الحضري ، سواء كان هذا الحراك مكانيا او مهنيا او اجتماعيا ، والصورة هنا تبدو اقل وضوحا بالنسبة لسكان الريف اذا ما استثنيا تحركهم المكاني ، فيما يخص الهجرة الى المدينة ، اما بالنسبة الى حراكم المهني والاجتماعي فهو امر لا يبدو واضحا ، وهذا ما يميزهم عن سكان الحضر . فالحراك بصوره المتعددة يرتبط طرديا بالحضرية ، في حين يرتبط عكسيا بالريفية .

  1. انساق التفاعل :

لاشك ان الحديث عن انساق التفاعل ، جاء نتيجة منطقية لما تحدثنا عنه في الفقرات السابقة من محكات تمييزية بين الريف والحضر . فصغر حجم المجتمع الريفي يجعل نطاق التفاعل الاجتماعي ضيقا ، بمعنى انه هناك علاقات حميمية ووثيقة من النوع الأولي ، والذي يسمح بمعرفة دقيقة لكل فرد تجاه فرد آخر ، وعلى العكس كما في المجتمع الحضري ، فان نطاق التفاعل يكون أكثر سعة ، ولعل الحجم الكبير للمكان الحضري هو سبب لهذه السعة في التفاعل ، مما يجعل طبيعة التفاعل ذاته حذّرّة وسطحية او ثانوية ، فالأفراد في المدن الحضرية لا يتعاملون مع بعضهم البعض بناءا على الانتماءات العشائرية ، وإنما ينظرون لبعضهم البعض كأرقام ، او كعناوين ، اذا ما استلزم التفاعل معها فانه تفاعل قائم على أساس ( العقلانية المادية ) .

ثانيا : ريدفيلد ومتصل الريفي ـ الحضري

لم يكن ريدفيلد مهتما كغيره من العلماء بوضع نماذج مثالية ، وانما الى جانب ذلك ولعه ببحث وتفهم التغيرات التي تحدث عندما يتحول المجتمع من حالة الريفي الى حالة الحضري[3] . ولتدعيم وجهة نظر ريدفيلد حول ثنائيته الشهيرة ( الريفي ـ الحضري ) قام بعدة دراسات ميدانية لعينة من المجتمعات المحلية . ولعل كتابه ” ثقافة الفولك عند اليوكاتان” (Redfield , Robert , The folk culture of yucatan ). من أهم أعماله التي نشر فيها نتائجه الميدانية ، وعرض من خلالها إطاره التصوري ، الذي تضمن فكرة المتصل الريفي ـ الحضري . وفي هذا السياق ، اختار ريدفيلد أربع مجتمعات محلية لاختبار ما وضعه من فروض ، اذ افترض بدءا ، ان كل واحدة من هذه المجتمعات تمثل نقطة متميزة على طول متصل متدرج يبدأ بمجتمع الفولك وينتهي بالمجتمع الحضري.

إن المجتمعات المحلية الأربعة ، التي اختارها ريدفيلد للدراسة تباينت الى حد ما في خصائص كل واحدة منها ، ولمعرفة ذلك فقد كانت مدينة ” الميريدا ” Merida مركزا للنشاط السياسي والاجتماعي والاقتصادي ، ومكانا تتواجد فيه مختلف الأنشطة الترفيهية والسياحية ، الى جانب توافر الصناعات المحلية ، ويشار في هذا الصدد ، ان هنالك درجة عالية من التغاير واللا تجانس وهي سمات الحضرية الواضحة ، وهذا يعود بطبيعة الحال الى تنوع الجماعات العرقية في المدينة ، كما أشرت الدراسة اختلاف في المكانة الطبيعية والسكنية والتعليمية والمعيشية ، وثمة مؤشرات أخرى أظهرتها دراسة ريدفيلد تعلقت أهمها بملاحظة درجة عالية من الحراك الاجتماعي والفيزيقي والمهني [4] .

وعلى النقيض من هذا النمط الذي استجلته الدراسة ، ظهر نموذج اخر تجسد بوجود قرية اسمهما ” التوسيك ” Tusik ، وهو المجتمع المحلي الثاني ، اذ اتضح ان لهذه القرية طابع قبلي صغير ، انحدر سكانها من سلالة واحدة تنتمي الى قبيلة X.CacL ولوحظ في هذه الدراسة ، ان لسكان هذه القرية انعزالية واضحة واكتفاءً ذاتيا يجعلهم أكثر بعدا عن القرى المجاورة . وقد وجد ريدفيلد أيضا أن طابع العلاقات الاجتماعية في التوسيك يسوده التجانس والاستقلال التام عن الحكومة المحلية ، وهذا يعطي انطباعا ان ثمة سلطة محلية واضحة يقودها زعماء محليين ، لاسيما بعد ان عرفنا ان انتماءات السكان في التوسيك انتماءات قبلية ، وهو امر يؤشر وجود السلطة التقليدية ، التي تحدث عنها ماكس فيبر ، وكل هذا يجعلهم يقفون موقفا عدائيا من جيرانهم المتحضرين . كما كشفت الدراسة ان ما يساعد على عزلة سكان التوسيك من الناحية الاجتماعية والثقافية ، ما تميزت به القرية اصلا من عزلة مكانية وجغرافية .

اما فيما يخص المجتمعان الاخران وهما ” شانكوم وديتاس ” فقد افترض ريدفيلد انهما يقعان في وسط المتصل الذي بدا طرفه الاول بمجتمع الفولك (ممثلا بقرية التوسيك) وانتهى بمجتمع الاخر الذي اتضح في ضوء الدراسة انه الاكثر تحضرا ( ممثلا بمدينة الميريدا ) . فموقع مجتمع الشانكوم من هذا المتصل ، انه ابتعد بعض الشيء عن القطب الحضري ، فيما اقترب من وجوه كثيرة الى القطب الريفي ، ولتدليل ذلك استظهر ريدفيلد ثمة خصائص لشانكوم تقربه الى النموذج الريفي ، تتمثل بانه ذات حجم صغير ، واعتماد سكانه على الزراعة ، ويظهر ايضا ان انتماءاتهم قبلية لا ينازعها أي انتماء ، كما افتقرت القرية الى أي نوع من التغاير الاجتماعي ، لكن في جانب اخر فان القرية ابتعدت عن التوسيك في بعض الوجوه ، لاسيما ابتعادها عن العزلة الاجتماعية والثقافية التي تميزت بها قرية التوسيك ، ويكشف ريدفيلد لنا في هذا السياق ، ان سكان الشانكوم عبروا عن رغبتهم في توثيق العلاقات مع مجتمع اليوكاتان والمدن المجاورة لها ، ومن ثم فأنهم يرغبون في التعامل مع الحكومة ومشروعاتها التنموية .وبناءً على ذلك فقد توصل ريدفيلد بان قرية الشانكوم استنادا على الخصائص المذكورة أعلاه ، يسيرون على طريق التحضر ، او على حد تعبيره ” قرية اختارت التقدم وسعت اليه “[5].

وقدم ريدفيلد نموذجا رابعا ، تجسد بقرية ” ديتاس ” ، فكشفت دراسته عن ابتعاد طفيف لسكان قرية ديتاس عن التحول الى الحضرية ، وهو أمر يختلف عما سٌجل في مجتمع الشانكوم ، لكن مع ذلك ، فان الخصائص التي تجتمع في قرية الديتاس ، تجعل المراقب حذرا جدا في وصف مجتمع الديتاس على انه حضري ام ريفي ، وذلك لانتشار الزراعة الى جانب وجود بناء مهني مكون من أنشطة وأعمال متنوعة تمثلت بقاضي المنطقة في القمة الى عمال النقل والشحن.مما دعا هذا التداخل الى وصف قرية الديتاس بانها تقع في منتصف الطريق الذي مثله متصل الفولك ـ حضري لدى ريدفيلد[6] . وفيما يلي نبين فكرة المتصل الريفي ـ الحضري في مخطط توضيحي .   

 

خصائص ريفية                                               تحول أسرع                               خصائص حضرية

 

_ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _  شانكوم ـــــــــــــــــ

مجتمع ريفي (التوسيك) ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مجتمع حضري (الميريدا)    ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ديتاس ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ         

 

            تحول أبطأ

 

  • ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ابتعاد عن الريفية
  • ـــــــــــــــــــ اقتراب الى الحضرية
  • ــــــــــــــــــ ديتاس ـــــــــــــــــــ تداخل في الخصائص

 

 

رسمه (5) توضح دراسات الحالة للمتصل الريفي – الحضري لـ (ريدفيلد ) ( الرسمه من تصرف الباحث )

 

                                                                                                                 

وبناءً على أعلاه ، فانه يمكن القول : ان مجتمعا من المجتمعات اقرب الى الريفية او الى الحضرية ، وهذا المعنى يقودنا أيضا الى الإقرار بان هذا التدرج في الخصائص يتزامن معه اختلافا في أنماط السلوك ، تجعل المجتمع يشذ او ينحرف عن النمط المثالي ، الذي يصنف ضمنه ، بمعنى اقرب ، ان مجتمعا ما كان سابقا يصنف انه ريفي اصبح اليوم يصنف انه حضري ، ومن ثم انحرف عن النموذج المثالي ” الريفي “[7] .

وفي صدد حديثه عن التغيرات التي تظهر عندما يتحول المجتمع من حالة الفولك الى حالة الحضري ، فقد اختزلها في ثلاث مقولات رئيسية وهي : زيادة التفكك الاجتماعي ، تزايد العلمانية ، وزيادة انتشار الفردية . ومن ثم فان هذه الخصائص تمثل خصائص المجتمع الحضري في نظر ريدفيلد .

الخاصية الأولى : زيادة التفكك الاجتماعية ، ويعني ذلك في نظر ريدفيلد ، ان منظومة القواعد والمعايير والمثل التي توجه الفعل الاجتماعي في مجتمع الفولك ، أصبحت ألان أكثر تعقيدا بعد أن تحول المجتمع الى النمط الحضري ، وفي هذا السياق ، يتخذ التفكك الاجتماعي والثقافي أربعة مظاهر أساسية : أولا ، فقدان الثقافة لوحدتها التقليدية ، وقد لاحظنا كيف أن سكان قريتي التوسيك والشانكوم ، قد انتظموا في نسق واحد من المعتقدات والقيم والمثل ، التي توجه سلوكهم وتحدد توجهاتهم ، بينما الأمر اختلف تماما عند سكان الميريدا والديتاس ، اذ فقدت الإطار الثقافي وحدته المتجانسة ، نتيجة تشعب المجتمع الى ثقافات فرعية مختلفة تباينت فيما بينها اثنيا ، وعرقيا ، وطبقيا ، وثانيا ، اتساع نطاق البدائل الثقافية أمام الفرد ، مما يصعب معه تحديد الأنماط السلوكية الواضحة ، ومن ثم تظهر عليه اللا معيارية او الانومي ـ كما اسماها دور كايم ـ ، وثالثا ، فان التكامل والارتباط الذي تمتع به النسق الثقافي ، لاسيما في مجتمع الفولك ، أصبح بفعل التغير في المجتمع الحضري مفقودا ، وإذا ما أراد شخصا فهم الطقوس التي تصاحب المرض ، فانه لابد ان يربط ذلك ما يجري أثناء العمل الزراعي ، والتفكير الغيبي من قيم ومعتقدات كلها تمثل سمة بارزة في مجتمع الفولك . وأخيرا ، فان المظهر الرابع من مظاهر التفكك الثقافي ، يتمثل في الصراع الواضح بين المستويات الثقافية لدى المجتمع الحضري ، الذي يواجه فيه الفرد توقعات سلوكية متعارضة ، في حين لا نجد ذلك في مجتمع الفولك الذي تنسجم فيه السمات الثقافية مع بعضها البعض .

الخاصية الثانية : تزايد العلمانية في مقابل ضعف فاعلية المقدس ، لا شك ان هذه الخاصية ، لا تظهر في بنية مجتمع الفولك ، فهو مجتمع تتحكم فيه باستمرار الموجهات الدينية والغيبية ، وهو امر نجده واضحا على افعال وتصرفات أفراده، بينما ترتبط كل النشاطات الحضرية تقريبا ، بحسابات عقلانية وبراغماتية ، ومن ثم ، فان المقدس في المجتمع الحضري قد لا يكون له دور بارز في الحياة الاجتماعية الحضرية .

الخاصية الثالثة : انتشار الفردية ، وهذا يعني ان الفرد في المجتمع الحضري ، هو من يحرك ويتحكم بموجهات السلوك الإنساني ، وهو المسوؤل على قراراته نيابة عن الجماعة ، لتمثل الأخيرة منبعا أساسيا لحياة الأفراد في مجتمع الفولك ، ويصبح الفرد هنا متبوعا لا يبصر بعينه ، وانما بعين الجماعة ، التي تنوب عنه في كل شيء ، وهو أمر قد يفسر لنا مدى إبداع الإنسان وتفوقه ، فالفرد الذي تقيده الجماعة ، لا يستطيع أبدا ان يفكر بحرية ، وان يبدع ، فهو دائما يتخوف من ذلك ، لان غول ” التمثلات الجمعية ” على تعبير دور كايم ، يتهدده ويتوعد به وصما يلصقه به . في حين ان الفرد عندما يتحول الى النمط الحضري ، يكتشف ان ما كان سابقا هو عبارة عن ” ترّهات ” ، فمثلا اذا كان الفرد يبذل كل جهده ووقته في خدمة اعمال جمعية ، فان هذا يعد مضيعة للوقت وسخف يرفضه تماما الفرد الحضري .

إذا ، نستطيع القول : إن الخصائص أعلاه تعبر عن تطور حالة الحضرية ، وهو أمر يبقى مرهون بمدى بلوغ المجتمعات تلك الحالة ، فكلما ازداد المجتمع علمانية ، وأصبح للفرد قرارا ، وتضاءل دور التفكير الأسطوري والغيبي يمكن القول ان المجتمع في طريقه الى الحضرية ، وعكس ذلك ، فان المجتمع اما ان يبقى في منتصف المتصل الريفي ـ الحضري ، الذي حدده ريدفيلد ، او انه يكون الأقرب الى الريفية منه الى الحضرية .

[1] . انظر : بودون ، ريمون ، فرانسوا بوريكو ، ص156-203.

[2] . نيقولا ، تيماشيف ، مصدر سبق ذكره ، ص267.

[3] . Redfield,Robert,p.293.

[4] . Redfield, Robert,Ibid,pp51-53.

[5] . Ibid,p.50.

[6] . Redfield,Robert,Ibid,pp.38-43.

[7] . للمزيد ينظر : اسماعيل قيرة ، ص37.

x