ظهور المدن القديمة في العراق

مرحلة التمركز الحضري

لاشك ان نشأة المدن في العراق القديم ، هي الاخرى لم تكن ظاهرة فجائية ، بل مرت بمرحلتين ، كانت الاولى منهما تركيز جهود الانسان لاستغلال امكانات وموارد البيئة ، للحفاظ على بقاءه ، فدفعته الضرورة لاختراع الالات والتوصل الى بعض الفنون ، فتوسعت نتيجة لذلك القرية الزراعية ، اذ غلب على تلك المرحلة تفاعل الانسان مع بيئته الطبيعية ، في حين تمثلت المرحلة الثانية بتفاعل الانسان مع البيئة الاجتماعية ، وفيها ظهرت ملامح المدن الاولى ، واصبحت مؤشرات التحضر واضحة في حدود (4000)ق.م ، من هذه المدن ( جمرة نصر ، اوروك ، اور ، اوما ، لكش ) ، وتحولت هذه المدن الى كيانات سياسية خاضعة لحكام محليين في حدود (3000)ق.م ، وهذا ما يسمى تاريخيا بعصر فجر السلالات او دويلات المدن السومرية. (الموسوي ، مصطفى عباس ، ص39- 40 )

ان ظهور الانماط الحضرية في العراق القديم ، قد كانت نتيجة لظروف اقتصادية منها انتاجية الزراعة الاروائية العالية ، التي من خلالها انتعشت القرية والحياة الاقتصادية الريفية ، مما دفع بذلك الى تصدير الفائض الاقتصادي الى المدينة ، اضافة الى ادخال التحسينات في الزراعة وتربية الحيوانات ، وتخزين الحبوب الصلبة التي يمكن ان تنتج بوفرة وتحفظ لمدة اطول بدون ان تتضرر . كما اسهم عامل الهجرة في تسريع عملية التحضر في وادي الرافدين،فكانت الهجرات المتتالية التي جاءت من جزيرة العرب وانتشرت في مختلف انحاء الهلال الخصيب ،عاملا مهما في تطور الوجه الحضري للعراق القديم ، نتيجة لما تمتلكه القبائل العربية النازحة من خبرة في شؤون الري والزراعة ، مما تمخض في نشوء امبروطوريات سامية شهيرة ، أي الاكدية ، والبابلية ، والاشورية ، والكلدانية الارامية .

 اضافة للظروف الاقتصادية كانت الاوضاع الادارية والقانونية ، تمثل هي الاخرى معّلما حضريا للمدن السومرية ، ونتيجة لدور القانون في حياة الفرد والمجتمع ،فقد اصبح نموذجا لمؤسسات مشابهة بين شعوب اخرى التي دارت في وقت من الاوقات في فلك حضارة بلاد الرافدين . وكان من بين هذه الشعوب (العلاميون ، والحوريون ، والحثيون ، والعبريون) . (سبيزر ،إي ، أي ، ص72 )

وكان يُعزّى في اول من سن لوائح قانونية في التاريخ الى حمورابي ، اعظم ملوك سلالة بابل الاولى التي يرقى تاريخها الى نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن السابع عشر قبل الميلاد ، الا ان هناك من يؤكد ان شريعتين جديدتين اكتشفتا قبل شريعة حمورابي ، احداهما (لبت عشتار ) كتبت بالسومرية ، والاخرى شريعة مدينة اشنونا ، وهي باللغة الاكدية . (سليمان ،د.عامر ،ص91- 92 )

هذا ويتضح ان تخزين الفائض من الانتاج ، وفتح القنوات ، وتنظيم الري ، وبناء الطرق ، والهجرة ، وتطور الادارة والقانون ، بررت حركة النمو الحضري وسرعة درجة التحضر ، فكانت المدينة حصيلة ذلك . لكن المدن في العراق القديم لم تكن لتستطع ان تمتد بعيدا عن حدودها الموضعية ، أي خارج موارد المياه والانتاج الزراعي القروي، وهذا يعني ان من شروط التحضر القرب من المياه والقرية ، لذلك يفسر ان احد اسباب اندثار المدن القديمة يرجع الى تغيير مجاري الانهر ، واسباب اخرى تتعلق بالحروب المنافسة بين الدويلات السامية.

مرحلة اللاتمركز الحضري

          ان هذه المرحلة ، أشرت بداية تدهور المدينة في العراق ، وخضعت معدلات النمو الحضري لاعتبارات سياسية وعسكرية ، وبعبارة اخرى ، اصبحت المدينة العراقية بموضعها وموقعها النادرين محط انظار القوى الخارجية ، واصبح العراق منطقة او ولاية تابعة لعدد من الامبروطوريات ، فقد خضع للفرس مرات ومرات ، واصبح تحت حكم السلوقين اليونان ، كما خضع جزء منه لنفوذ الرومان .

           وقد خضع العراق لاول مرة لحكم الفرس في زمن الماذين ، وبعد ان وحد كورش الفارس الشعبين الماذي والفارس المرتبطين بلحمة النسب ، واستطاع من خلال ذلك ان يؤسس الدولة الاخمينية ، واصبح العراق ولاية ضمن الدولة الفارسية للفترة التي امتدت من 539ق.م – 331ق.م . (الموسوي ، المصدر نفسه ، ص46 )

          ثم توالت القوى الاجنبية في الاستيلاء على العراق ، ولم تتطور المدينة العراقية كما يفترض ، بل اصابها الخراب والتراجع . فقد مثل احتلال العراق من قبل المغول في القرن الثالث عشر ، حالة مريرة من حالات التدمير والتدهور العمرانيين الذي حل بالمدن العراقية ..، وكان من ابرز الانحطاطات التي لحقت بالمدينة ، تلك الحروب الوحشية التي شنها تيمولنك في اواخر القرن الرابع عشر .(نخبة من أساتذة التاريخ ، ص7) .

 وفضلا عن الاسباب العسكرية ، التي اجهضت حيوية المدينة في العراق ، كانت هنالك اسباب اخرى تمثلت بوضع المدينة تحت رحمة الارياف ، وتسلط الاقطاعيين ، وربما خير شاهد على ذلك ، الاحتلال العثماني للعراق ، الذي لم يولي أي اهتمام يذكر بالتطور الحضري ، ومن بعده الاحتلال الانكليزي ، الذي عمق من ظاهرة ترييف المدن  .

x