منهج البحث العلمي الظاهراتي

كي يتمكن هوسرل من دراسة الوعي المعرفي وكيفية تكوينه للموضوعية كان عليه أن يعزل الجوانب الحسية والتجريبية من المعرفة، أي جانب المضمون المادي ليركز على شكل الفكر الذي هو فعل للوعي. وتطلب ذلك منه أن يتوقف عن البحث في وجود الموضوعات كي يركز على النمط الذي تظهر به الموضوعات في الوعي. وبذلك استبعد الحكم حول وجود الأشياء والعلاقات الموضوعية بينها، وهذا هو معنى تعليق الحكم لديه. وتعليق الحكم هو المعنى المتضمن في مصطلحالإبوخية (بالإنجليزية:Epoche) الذي يعني التوقف أو الانتظار أو السلب. أما الرد (بالإنجليزية:Reductionn فيعني رد الموضوع إلى الوعي بهذا الموضوع، أي إلى الأفعال المعرفية التي يأتي بها الموضوع للوعي، وبذلك يكون الرد إلى  المجال القبلي الذي يتأسس فيه الموضوع، ولذلك يسميه هوسرل “الرد الفينومينولوجي – الترانسندنتالي”، بمعنى رد الخبرة إلى المجال القبلي الترانسندنتالي الذي ينظر إليه هوسرل على أنه مجال الوعي الخالص. ومن الواضح أن الإبوخية والرد كلاهما يهدف الوصول إلى نفس المجال القبلي الترانسندنتالي الذي انطلق منه كانط.

لم يبدأ هوسرل في استخدام “الإبوخية” في كتاب “الأفكار” (1913) كما يعتقد كثير من الباحثين – على الرغم من أن المصطلح نفسه لم يظهر إلا في هذا الكتاب الذي قدم فيه أفضل تنظير وشرح له – بل إن أول استخدام فعلي له كان في “أبحاث منطقية” (1900)؛ إذ استخدم فيه هوسرل صورة أولية للإبوخية، لكن لم يسميه بنفس الاسم، باعتباره خطوة أولى في التخلي عن كل وجهة نظر سابقة وتنحية لكل الفلسفات والمذاهب في البحث في المعرفة، بالإضافة إلى أن هوسرل يمارس إبوخية على المعنى السيكولوجي للوعي سعياً وراء المعنى الفينومينولوجي الخالص.

وبعد “أبحاث منطقية” تظهر الإبوخية في محاضرات “فينومينولوجيا الوعي بالزمان الداخلي” سنة 1905، وفيها يمارس هوسرل الإبوخية على الزمان الفيزيائي للوصول إلى الزمان الداخلي، بمعنى الترتيب الزماني لحالات الإدراك المختلفة وتعاقبها، ودور الزمان في تحديد الوعي بالسببية والجوهر( ). وهنا نلاحظ كيف يقترب هوسرل من المعنى الكانطي للزمان باعتباره القوام الداخلي لكل العمليات المعرفية. وفي محاضرة “فكرة الفينومينولوجيا” سنة 1907 يوسع هوسرل من مجالات الإبوخية حتى يشمل العالم الطبيعي وإشكالية وجوده كي يتم التركيز على وجود الذات العارفة. وفي هذه المحاضرة يقارن هوسرل بين استخدامه للإبوخية والشك الديكارتي ويعترف بأوجه شبه عديدة حتى أنه نظر للإبوخية على أنه استئناف للشك المنهجي عند ديكارت لكن بطريقة راديكالية، ذلك لأن ديكارت لم يتوصل بعد الشك إلا إلى مجرد وجود الأنا أفكر، أما هوسرل فيتوصل بعد الإبوخية إلى الدور المعرفي للذات الترانسندنتالية باعتبارها الشرط الأول للموضوعية والمعنى.

وفي “الأفكار” (1913) يجعل هوسرل الإبوخية بداية المنهج والخطوة الأولى في التحليل الفينومينولوجي، وهو يعد من الموضوعات الأساسية في الكتاب. ويصف فيه الإبوخية على أنه “وضع بين قوسين”، أي عزل وتنحية كل ما له علاقة بالخبرة التجريبية والعالم الطبيعي. والإبوخية في “الأفكار” يتسع ويتضخم إلى أقصى حد ممكن؛ يقول هوسرل

   

المنهج الفينومينولوجي عند هوسرل

نضع بين قوسين (كل ما يتعلق بماهية الموقف الطبيعي) بالنظر إلى طبيعة الوجود: أي هذا العالم الطبيعي كله والذي هو حاضر أمامنا وفي متناول أيادينا.. والذي سيبقى للأبد عالماً من الوقائع.. وهكذا أعزل كل العلوم التي تتعلق بهذا العالم الطبيعي.. ولا أستخدم أيا من معاييرها ولا أية قضية من قضاياها في نسقي.. أو باعتبارها أساساً لي
   

المنهج الفينومينولوجي عند هوسرل

ويُلاحظ هنا أن هوسرل لا يضع الوعي الطبيعي بين القوسين وحسب، بل كذلك العلوم الطبيعية التي تستند على هذا الموقف. وعزل العلوم الطبيعية ضروري لدى هوسرل، لأنه يريد البحث في أساس هذه العلوم باعتبار أن مبادئها ظاهرات في الوعي، ذلك لأن العلوم الطبيعية تستند على بديهيات وقبليات، ومهمة الفينومينولوجيا البحث في كيفية امتلاك الذات العارفة لهذه القبليات، وبذلك يكون البحث الفينومينولوجي هو المؤسس لموضوعية العلوم برد هذه الموضوعية إلى أفعال الوعي. ومرة أخرى نجد هوسرل يتفق في الهدف العام من منهجه الفينومينولوجي مع الإبستيمولوجيا الكانطية التي تبحث في الإمكان القبلي للمعرفة.

ويذهب هوسرل إلى أنه لا خوف على موضوعية العالم وحقيقته وغناه العيني من الإبوخية، لأنه ليس تضحية بهذه الأشياء بل مجرد تعليق مؤقت لها. كما يذهب إلى أن العالم الأصلي والحقيقي هو ما يظهر للذات الترانسندنتالية، وهو لا يظهر باعتباره وقائع وأحداث بل باعتباره شيئاً مصنوعاً ومكوناً من قبل الذات. هوسرل إذن منشغل بإشكالية الإعطاء (بالإنجليزية:Gegebenheit/Givenness)، أي كيف يكون العالم معطى للذاتية الترانسندنتالية. وهذا ما دفعه نحو قول الشعار الشهير: “بقدر الرد بقدر الإعطاء”، أي بقدر ما نمارس الإبوخية على الطابع الوقائعي والتجريبي للعالم بقدر ما يظهر لنا طابعه القبلي الفينومينولوجي.

لكن كيف توصل هوسرل إلى وجود الأنا بالإبوخية؟ بعد أن يضع هوسرل العالم والموقف الطبيعي بين قوسين يذهب إلى أن الوعي الخالص يظل هو المتبقي من هذه العملية، هو الراسب الفينومينولوجي (بالإنجليزية:Phenomenological Residuum)، وبذلك يتوصل إلى مجال جديد للبحث الفينومينولوجي. هوسرل إذن يؤسس مجال البحث الفينومينولوجي بشئ متبقٍ، اعتقاداً منه أن هذا الأنا المتبقي بعد الإبوخية هو اللامشروط الذي يمكن أن يبدأ به التفلسف؛ وهو هنا يلعب على ثنائية المشروط واللامشروط لكن دون تصريح، إذ يحاول القول بأن إدراكنا للعالم مشروط بالأنا الخالص، بحيث نستطيع التفكير في هذا الأنا في غياب العالم.

أما الرد الفينومينولوجي – الترانسندنتالي فهو رد الوقائع إلى الماهيات باعتبار أن الوقائع عارضة ولا تتمتع بثبات ووضوح الماهيات وواقعيتها، إذ يحكم هوسرل على الوقائع (Facts) بأنها غير واقعية . ومعياره للواقعية أن يكون الموضوع متمتعاً بالكلية والشمول واللامشروطية، وهذا ما يتوفر للماهيات، لأن الوقائع جزئية ومشروطة دائماً ومن طبيعتها أن تكون ممثلة للكلي، أي الماهوي، ولا يكون وجودها من ذاتها.

والرد الفينومينولوجي يكون إلى العالم قبل العلمي، العالم السابق على التصنيفات العلمية التي تقسمه إلى مجالات فيزيائية وبيولوجية وكيميائية. والعالم قبل العلمي هو عالم الحياة المعاشة، أي العالم الذي تعيشه الذات وتفترضه في وعيها الخالص وهو يعد القبلي الحقيقي عند هوسرل؛ وهو كذلك المجال الذي يظهر فيه الفكر قبل الحملي (بالإنجليزية:Pre-predicative Thought) أي المرحلة الفكرية الأولى التي يُلحق فيها الوعي شيئاً بمقولة. وبفضل ذلك الرد يصل المرء إلى امتلاك الوضع الترانسندنتالي للوجود، أي الوضع الذي يتعرف فيه الوعي على الموضوعات لأول مرة باعتبارها تنتمي لأنماط أنطولوجية معينة.

وهنا يتضح الفرق بين الإبوخية والرد الفينومينولوجي – الترانسندنتالي. الإبوخية يهدف تجاوز العالم الطبيعي، عالم الخبرة الحسية والموقف الطبيعي للوعي، للوصول إلى الوعي الخالص أو الأنا المطلق. وعند الوصول إليه يبدأ هوسرل في دراسة كيفية ظهور العالم في هذا الوعي عن طريق رد الخبرة التجريبية إلى الخبرة القبلية الخالصة. إلا أن ما يجمعهما معاً هو استبعادهما للموقف الطبيعي للوعي. والحقيقة أن هوسرل كان أحياناً ما يستخدم تعبير “الرد الفينومينولوجي”، وأحياناً أخرى “الرد الترانسندنتالي”، وهذا ما أدى إلى صعوبات كثيرة في فهم فكرة الرد لديه، إذ اعتقد الكثيرون أن هناك نوعان من الرد، إلا أنه نوع واحد فقط؛ فالرد فينومينولوجي في طبيعته ومنهجه، وهو ترانسندنتالي أيضاً لأنه يسعى للوصول إلى المستوى الترانسندنتالي، أي المستوى القبلي الذي يتم فيه تكوين الموضوعية عن طريق أفعال الموضعة (بالإنجليزية:Objektivierung/Objectification)، أي أفعال الوعي في تأسيس الموضوعية.

كان أول ظهور لطريقة الرد الفينومينولوجي في “أبحاث منطقية”، وخاصة في المبحث السادس في الفصل المتعلق بالمعنى الفينومينولوجي للوعي. يفصل هوسرل في هذا الفصل بين الوعي بالمعنى السيكولوجي والوعي بالمعنى الفينومينولوجي. حيث يهتم المعنى السيكولوجي للوعي بالمضامين التجريبية للخبرة، ويتناول هذه الخبرة على أنها أحداث (Occurrences) أو حوادث (Events) تشكل في تداخلها وطرق اتصالها المتبادل وحدة الذهن المفرد. أما الوعي بالمعنى الفينومينولوجي فيهتم بتيار الخبرة الخالصة؛ لا الخبرة بمعنى الأحداث الذهنية التي ترجع إلى مثيرات خارجية، بل الخبرة بمعنى وحدة الحياة النفسية الداخلية التي هي حامل أو قوام الأفعال الذهنية( ).؛ ذلك لأن الجانب السيكولوجي للوعي يتوقف عند الفعل الذهني ومثيراته، لكن هوسرل يسير خطوة أبعد ويذهب إلى أن الأفعال الذهنية في حاجة إلى حامل تحمل عليه وهو الوعي الخالص. وبذلك يمارس هوسرل رداً فينومينولوجياً للوعي السيكولوجي إلى الوعي الفينومينولوجي

x