نظام الحكم وانعكاس تأثيره على التركيب الاجتماعي

لقد بات من الثابت ان الانسان منذ وجوده كانسان لم يعش بمعزل عن غيره من بني جنسه من البشر فقد عرف الحياة الجماعية بشكل متدرج ، بدءاً بالأسرة ، ثم العائلة الكبيرة الموسعة ثم القبيلة ثم ( المشتركات ) بأشكالها المختلفة . وفيما يتعلق بالمجتمع الرافديني العراقي القديم يمكن القول انه قد تركب من طبقتين اساسيتين : الطبقة الحاكمة والطبقة المحكومة .

اولاً : الطبقة الحاكمة : وقد ضمت الطبقة الحاكمة في المجتمع الرافديني – العراقي القديم ثلاث فئات اجتماعية هي : الفئة الدينية ، والفئة البيروقراطية ، والفئة العسكرية .  

أ‌-  الفئة الدينية : واهم مايميزها بوجه خاص ان مركزها الاجتماعي يتحدد من خلال الوظيفة والممارسات الدينية التي تضطلع بها . وتشمل هذه الفئة بوجه عام ، هيئة الكهنة بكل اصنافهم ومراتبهم . وكان على رأسها ( الكاهن الأعظم ) . وكانت له مكانة عالية حتى ان منصبه ما لبي ثان صار مطمح انظار العائلة المالكة ، فالملك كا يقوم بتعيين ابنائه وبناته أو احد اعضاء عائلته الاخرين لاشغال هذا المنصب .

وتتجلى اهمية ( الكاهن الأعظم ) اذا ما علمنا ان تعيينه في هذا المنصب كان يتم بقرار من الملك ، بعد استشارته ( الاله ) وظهور ارادة هذا الاخير بهذا الخصوص جلية من خلال ( نبوءة واضحة ) . لكن هذه الأهمية تتجلى أكثر اذا ما تعرفنا على اختصاصاته الدنيوية التي كان يمارسها علاوة على اختصاصاته الدينية . ذلك انه كان يحظى في الوقت نفسه بمنصب ( الحاكم –ايشاكو ) الذي من مهامه السيطرة على مخازن الغلال ، والاشراف على تثبيت الحدود الخاصة بالحقول ، ومراقبة توزيع حصص الارض على مستحقيها من عامة الناس وتعيين المهام التي تتطلبها اعمال السخرة سواءً في الارض الخاصة بالمعبد أو في قنوات الري . والى جانب ( الكاهن الأعظم ) كانت توجد أصناف اخرى من الكهنة مثل ( المنبئون ) و ( المعوذون ) وغيرهم تستفيد من امتيازات عديدة فبالاضافة الى المرتبات العينية التي تتلقاها ، كانت هذه الفئة تهيمن على القرابين المقدمة الى الآلهة كماان الكهنة من ذوي المراتب العليا كانوا يمتلكون العقارات .

والواقع ان الهيمنة التي كانت تمارسها هذه الفئة على الملك كان يصاحبها في الغالب تعزيز مكانتها الاقتصادية الأمر الذي يفتح الباب امام الصراع  بين هذه الفئة والفئة الأخرى .

ب‌-  الفئة البيروقراطية : وكانت هذه الفئة تتميز بأن مركزها الاجتماعي يتحدد من خلال الوظيفة والممارسات الحكومية التي تضطلع بها . والواقع ان هذه الفئة كانت تصنف وفق المركز الذي يحتله أعضاؤها على درجات سلم السلطة الى صنفين أساسيين : الأول عمودي ، والآخر أفقي .

فعلى المستوى العمودي تتمثل هذه الفئة من كبار رجالات الدولة كالملك والموظفين المسؤولين والموظفين التابعين . أما المستوى الأفقي فيتمثل في امتدادات الشبكة البيروقراطية الى الأقاليم الأخرى التابعة الى السلطة المركزية – ( أي الحكام المحليين ومن هم أدنى منهم من الموظفين الذين يتم تعيينهم من قبل السلطة المركزية ) .

وعلى رأس هذه الفئة البيروقراطية يأتي ( الملك ) ، وكان الملك يتمتع بموارده الخاصة التي كانت تأتيه عن طريق الإرث ، أو ما يحصل عليه عن طريق الغنيمة التي تقترن بها الفتوحات العسكرية ، وهذه الموارد كانت تتخذ شكل الهبة التي تمنّ بها الآلهة عليه .

وقد أتاح هذا المستوى المادي المتميز للسلوك ان يدّعوا بأنهم ينحدرون من أصل اجتماعي متميز ، باعتبارهم سليلي عرق فريد كانت الآلهة قد باركته .

والى جانب الملك كانت توجد حاشيته التي كانت تستمد مركزها الاجتماعي من علاقتها به . وكانت تشمل عادة نساءه وخليلاته وأفراد عائلته وبطانته وخدمه . وبعد الملك وحاشيته يأتي الموظفون الأساسيون ، وهؤلاء يتمثلون بـ ( هيئة الكتبة ) التي يشرف عليها كاتب أعظم .  

وبمكن ان نميز من بين هؤلاء الموظفين السياسيون وهذه الجماعة كان يتم إعدادها بطريقة متميزة ، فقد كان يتم إعدادها في ( الهياكل ) لممارسة الوظائف المقدسة قبل انتقالها الى ممارسة العمل في الوظائف الحكومية .

وبعد ذلك يأتي الموظفون التابعون وهؤلاء كانوا يتكونون أساساً من الكتبة والمستخدمين التابعين الذين كانوا يضطلعون بمهام سكرتيري البلاط والحكومة المركزية والمكاتب الإقليمية والمحلية .  

وبعد هؤلاء يأتي المستخدمون التابعون الذين يتمثلون أساساً بالسقاة العاديين ، والعاملين في الحدائق الملكية ، وحراس السجون ورجال الشرطة .

وعلى الرغم من ان الفئة البيروقراطية كانت تتمتع بصورة عامة بدخلها الخاص بها ، إلا انه يبدو ان أفراد هذه الفئة كثيراً ما كانوا يستغلون مناصبهم للحصول على ثروة تفوق مرتباتهم .  

ج- الفئة العسكرية : لقد افتقدت بلاد وادي الرافدين قديماً الى بعض الموارد الاساسية التي يحتاجها سكانها في حياتهم اليومية مثل الاخشاب والاحجار والمعادن ، ونظراً لصعوبة الحصول على هذه المواد من المناطق المجاورة الجنوبية – حيث تمتد الأهوار أو المستنقعات لغاية سواحل الخليج – فقد عمد سكان وادي الرافدين الى الحصول على احتياجاتهم من خلال التجارة مع آسيا الصغرى ولبنان والبحر المتوسط . ونظراً لم تتطلبه التجارة من اجل استمرارها من حماية ، فقد كان من الضروري وجود جيش يقوم بحماية القوافل ويصون التجارة ، ومن ناحية أخرى فأن جهود الملوك من اجل بسط السلطة المركزية على سائر أقاليم البلاد وضمان وجدتها قد اصطدمت بحقيقة تناثر مدن الأقاليم وتباعدها عن بعضها ، الأمر الذي حتم جعل الحرب الوسيلة الوحيدة للوصول الى مبتغاهم . وتبعاً لذلك فقد توافر اكثر من مبرر لقيام الجيش وادى بالتالي الى تشكل فئة اجتماعية متميزة هي فئة العسكريين .

وما لبث دور هذه الفئة الاجتماعية ان تنامى في الشؤون السياسية من خلال المركز الذي احتلته داخل المجالس العامة ، كما كانت تساهم في تسيير شؤون الحكم . بل ان الملوك انفسهم ما لبثوا ان زادوا من اعتمادهم في تصريفهم للشؤون العامة على هذه الفئة العسكرية .

وفي الوقت الذي كانت تتممتع فيه هذه الفئة بالمركز الاجتماعي العالي ، فقد تسنى لها ان تعزز هذا المركز من خلال الامتيازات المالية التي كانت تحصل عليها سواءً على شكل عقارات أو منح مالية ، الامر الذي جعل لها مكانة متميزة مؤثرة في المجتمع .

x