نظرية العقد الاجتماعي عند جان جاك روسو

ولد جان جاك روسو jean – Jacques rousso في جنيف من أسرة فرنسية، احترف في أول حياته مختلف الحرف، لكنه عرف بعض الاستقرار في مدينة سافوي فاستطاع أن يتعلم الموسيقي واللاتينية والفلسفة، ثم ذهب الى مدينة البندقية حيث أصبح كاتباً لسفير فرنسا فيها وعاد إلى باريس وهو في الثالثة والثلاثين. في باريس اتصل (بريد رو) المفكر الفرنسي وكتب في موسوعته الجزء الخاص بالموسيقة.

في صيف 1749 قرأ إحدى الصحف إن أكاديمية ديجون تعرض للمسابقة هذه المسألة، هل تعاونت الفنون والعلوم على تصفية الأخلاق؟ فشرع يكتب على الفور في هذا الموضوع وقدم للأكاديمية ما كتب وأحرز الجائزة.

 كان هذا هو أول الطريق الى شهرته العالمية. ثم أعلنت الأكاديمية إنها تضع للمسابقة هذا الموضوع (ما منبع تفاوت المراتب بين الناس)؟ وهل يقره القانون الطبيعي؟ فعقد العزم على الكتابة وأخرج كتابه الثاني (مقال في أصل التفاوت بين الناس)؟ وهل يقره القانون الطبيعي؟ فعقد العزم على الكتابة وأخرج كتابه الثاني (مقال في أصل التفاوت بين الناس) ولكنه لم يحصل على الجائزة ونشر الكتاب عام 1574، وبعد ثمان سنوات (1762) أخرج كتابين (العقد الاجتماعي) (في التربية) فأنكره السلطات الباريسية الكتاب الثاني وهمت بإعتقاله ففر إلى سويسرا ثم لجأ إلى النكلترا وسمع له أخيراً بالعودة على فرنسا حيث عاد وقضى بقية أيامه بحالة مضطربة.

آراءه في العقد الاجتماعي:-

يرى روسو إن الانسان طبيعي لا هو بالخير ولا هو بالشرير، وإن المساواةين الناس قد زالت بظهور الزراعة والصناعة والملكية. إن القوانين قد شرعت لتثبيت قوة الظالم على المظلوم، والناس يستطيعون تحقيق شيء من الحرية المدنية بدخولهم في تعاقد اجتماعي يجعل السيادة للمجتمع بأسره بحيث لا يجوز النزول عنها لأحد.

يفترض روسو إن الإنسان كان متوحداً في الغالب لا يعرف أهله ولعله لم يكن يعرف أولاده ولا لغة له ولا صناعة ولا فضيلة ولا رذيلة من حيث أنه لم يكن له مع أفراد نوعه أي علاقة يمكن أن تكون علاقة خلقية كان حاصلا بسهولة على وسائل ارضاء حاجاته الطبيعية ولم يصاب الا بالقليل من الأمراض قلما كان يحتاج إلى الأدوية لأن الصحة إنما تعتل بالإسراف في المعيشة وبالميول المصطنعة وما ينتج عنها من اجهاد جسمي وعقلي. 1 يرى روسو ان الحرية هي التي تميز الإنسان أكثر من الفهم (الموجود في الحيوان إلى حد ما) ويقول  ان الحيوان ينقاد لدافع الطبيعة ولكن الإنسان يرى نفسه حراً في الانقياد له أو مقاومته. ويعتقد روسو أن هوبز  قد أخطأ في قوله أن حالة الطبيعة تتميز بالطمع والكبرياء، فإن هاتين العاطفتين لا تنشآن إلاّ في حالة الإجتماع، فالإنسان المتوحد كان كاملاً سعيداً لأن حاجاته قليلة.

يبدر هذا التساؤل عن كيفية خروج الإنسان من هذه الحالة؟ خرج الإنسان منها اتفاقاً بأن عرضت له أولاً اسباب طبيعة كالجدب والبرد والقيظ اضطرته إلى التعاون مع غيره من أبناء نوعه… تعاوناً[19] موقتاً كان الغرض منه صيد الحيوان… ثم اضطرتهم الفيضانات والزلازل إلى الإجتماع بصفة مستديمة فاخترعت اللغة فتغير السلوك وبرز الحسد.

ان هذا الإجتماع بنوعيه، المؤقت والمستديم، يمثل في رأي روسو، حالة التوحش الخالية من القوانين وليس فيها ردع سوى خوف الإنتقام ولكن تطور حياة الإنسان واتساع ضروراتها أدى إلى نشوء حالة مدنية منظمة بالقوانين تثبت الملكية ويتوطد التفاوت بين الناس. وهكذا يتحول الإنسان الطيب بالطبع إلى شرير بالاجتماع.

إن الاجتماع قد أضحى ضروريا ومن العبث فضه والعودة إلى حالة الطبيعة.1

وكل ما تستطيع صنعه هو أن تصلح مفاسده بأن تقيم الحكومة الصالحة وتهيئ لها بتربية المواطنين الصالحين. فمن الوجهة الأولى تعود المسألة إلى إيجاد ضرب من الإتحاد يحمى بقوة المجتمع شخص كل عضو وحقوقه ويسمح للكل وهو متحد بالكل بأن لا يخضع إلا لنفسه وبأن تبقى له الحرية التي كان يتمتع بها من قبل. لم تكن ملكية الأرض مضمونة بما فيه الكفاية. وكان لابد من تدبر وسائل جديدة لحمايتها. وقد لجأ الأغنياء إلى الحيلة للإيقاع بالفقراء وقد ابتكروا كما يقول روسو، أذكى خطة عندما قالوا للفقراء نتحد لكي نحمي الضعفاء من الظلم والجور، ونضع قوانين العدل والسلم وبدلاً من أن نستنفذ قوانا في الاقتتال نوحد أنفسنا في سلطة عليا وفق الشرائع الحكيمة… وهكذا قاد تأسيس الملكية الأرضية البشر إلى الميثاق الاجتماعي.[20]

هذه المسألة التي يعالجها روسو في كتابه (العقد الاجتماعي) يذهب إلى أن هذا الفرض (الحريات والحقوق) ممكن التحقيق عندما تجمع الكثرة المفككة على أن تؤلف شعبا واحداً، وأن تحل القانون محل الإدارة الفردية وينزل عن نفسه وعن حقوقه للمجتمع بأكمله وهذا هو البند الوحيد للعقد الاجتماعي إذ بمقتضاه يصبح الكل متساوين في ظل القانون، والقانون ارادة الكل تقر الكلي أي المنفعة العامة وأن الشعب لا يريد إلا المنفعة العامة. فالإرادة الكلية مستقيمة دائماً ومن يأب الخضوع لها يرغمه المجتمع بأكمله.

كانت القوانين في البداية، على حد قول رسو، تفتقر إلى بعض الضوابط والمعايير الملزمة للأفراد وكان المجتمع بأسره يضمن احترامها والتقيد بها. لكن سرعان ما أوحى ضعف شكل الحكم هذا فكرة (توكيل أفراد معينين على الوديعة الخطيرة، السلطة العامة)

هكذا ظهر الولاة المنتخبون، بما أن الشعب وحَّد إرادته جمعاء في مشيئة واحدة، فيما يتصل بالعلاقات الاجتماعية، فإن كل ما وضع موضوعاً لهذه المشيئة صار للحال قانوناً أساسياً ملزماً لجميع أعضاء الدولة دونما استثناء. وهكذا نجد أن العقد الاجتماعي لا يتمخض، من منظور روسو عن تكوين المجتمع كتنظيم سياسي فحسب، وإنما يحدد أيضاً العلاقات المتبادلة بين الشعب وبين الذين انتخبهم كيما يحكموه.

لقد كان العقد أداة إرادية يتنازل به الأفراد عن حريتهم الطبيعية إلى كل فرد آخر، وأذابوا إرادتهم الفردية في إرادة عامة مشتركة واتفقوا على قبول أحكام هذه (الإرادة العامة) كأحكام نهائية قاطعة، وكانت هذه الإرادة العامة هي السلطة صاحبة السيادة، وإذا ما فهمت هذه السلطة فهما صادقا فإنها سلطة (مطلقة) و(مقدسة) ولا يمكن الخروج عليها. أما الحكومة فهي أمر ثانوي عرضي، فالملك والموظفون أو الممثلون المنتخبون ممثلون عن الشعب الذي يملك السلطة والسيادة.[21]

إن العقد الاجتماعي عند روسو ليس عقداً بين أفراد (كما عند هوبز) ولا عقداً بين الأفراد والسلطات (كما عند لوك) فبموجب هذا العقد، كما يرى روسو، فأن كل واحد يتحد مع الكل فالعقد هو بين المجموعة بحيث يضع كل واحد شخصه وقدرته في الشراكة تحت سلطات الإرادة العامة, وسيكون كل شريك متحداً مع الكل ولا يتحد مع أي شخص بشكل خاص.1

إن العقد الاجتماعي هو الشرط الضروري والملازم لكل سلطة شرعية ولكل ابرام هذا العقد يمثل في الوقت نفسه من منظور روسو مرحلة محددة من  التطور التاريخي يشير إلى الانتقال من الحالة الطبيعية إلى المجتمع المدني، وان ما يخسره الإنسان من جراء العقد هو حريته الطبيعية والحق اللا محدود في كل ما يقربه وكل ما يستطيع أن يبلغه ويطوله

وما يربحه بالمقابل هو الحرية المدنية وهو تملكه لكل ما ملكته يده.

يتلخص جوهر العقد الاجتماعي على النحو الآتي، يضع كل واحد منا شخصه وكامل حقوقه تحت الأمرة العليا للمشيئة العامة وان غاية العقد الاجتماعي الحفاظ، ولا ريب على حياة المتعاقدين.

ولكن من يرغب بالحفاظ على حياته بمعونة الآخرين ملزم بالتضحية بها في سبيلهم عندما يقتضي الأمر ذلك إن الفرد إن يمنح نفسه للمجتمع، يستودعه أمواله أيضاً.

فروسو يذعن أن الميثاق الاجتماعي يجعل من الدولة مالكة أموال رعاياها كافة. غير أن الدولة التي تتقبل أموال رعاياها وممتلكاتهم لا تجردهم منها وإنما تضمن لهم تملكهم المشروع فالدولة وحدها قادرة على تحويل الإغتصاب إلى حق للتمتع على ملكية [22]

ثم يأتي روسو على أهم جانب من جوانب نظرية وهو الجانب الذي يميزه عن النظريات الأخرى، فليس من المعقول في نظر روسو أن تتخيل عقداً يتعهد أحد الطرفين بموجبه أن يأمر، والثاني أن ينصاع، ان العقد الوحيد هو الذي يتولد عنه الحسم السياسي.

وكل عقد يحد من سلطة الشعب السائدة المطلقة يقوِّض أساس الميثاق الاجتماعي، ليس ممثلوا السلطة التنفيذية إذا كانوا قادة الشعب أو رؤساء، إنما هم موظفون عنده وهو  من يعيينهم أو يسرِّحهم، ولا تقوم وظيفتهم على أساس بنود عقد محدد وإنما على أساس انصياعهم للواجب الذي تفرضه الدولة.

إن أشكال الحكم في نظر روسو ليست أكثر من أشكال تنظيمية للسلطة التنفيذية ومهما اختلفت أشكال الحكم، تبقى السلطة السيادية على الدوام. من حق الشعب، ولكن قد يعهد هذا الأخير بالسلطة التنفيذية أما إلى الجزء الأكبر من الشعب، وأما إلى عدد محدود صغير من الأشخاص، وأما إلى شخص واحد، ويطلق على الشكل الأول من أشكال الحكم اسم الديمقراطية وعلى الثاني الأرستقراطية، وعلى الثالث اسم الملكية.1

اختار روسو الديمقراطية في حقبة لم تتواجد فيها الديمقراطية لا في الواقع ولا في الأفكار، وبما أن الشروط التاريخية للديمقراطية لم تكن متوفرة، وجد روسو نفسه مضطراً أما لقبول أيديولوجية اللبرالية البرجوازية التي كانت يومئذ الإيديولوجية السائدة (حرية، مساواة، ملكية) وأما بناء مدينة طوبائية لكنها في نفس الوقت عقلانية.[23]

حاول روسو في (العقد الاجتماعي) أن يثبت إنهُ يستحيل في المجتمع الحر أن يحكم أي إنسان من قبل أي إنسان آخر، وكيف إن كل فرد هو في آن معاً رعيَّة ومواطنين، وإن السلطة الشرعية لابد أن تتبثق عن موافقة المحكومين، وإن السيادة تكمن في الإرادة العامة في اجتماع الأمة، وإن الذين يشغلون منصباً عاماً لا يؤدون مهامهم بمقتضى حقهم الخاص، أو حق موروث، وإنما بمقتضى سلطة أوكلتها إليهم، سلطة تمنح وتحسب.[24]

الخاتمة:

هكذا نأتي الى نهاية بحثنا هذا عن العقد الاجتماعي وأبرز المنظرين فيه، بما في ذلك طرح نظرياتهم في هذا المجال، التي ظهرت خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر في أوربا الغربية لاسيما في كل من إنكلترا وفرنسا.

فضلاً عن ذلك التركيز على الجهود التي بذلها أصحاب هذه النظريات التي كانت قياساً إلى العصر الذي عاشه كل منهم جهوداً جبارة حملت معها مخاطر شديدة. فعلاً إن هذه النظريات والأفكار لم تكن تروق لأصحاب النفوذ والسلطة المطلقة الذين رأوا فيها اختزالاً لأدوارهم وشخصياتهم وتأثيراتهم. إن هذه النظريات كانت محفزاً وملهماً لكثير من الأفكار والنظريات الفلسفية والسياسية التي ظهرت بعد انتشارها. فقد كانت مصدر الهام للثورتين الأمريكية سنة 1776 والفرنسية 1789 مثلما كانت مصدر إلهام للأحزاب التي ظهرت بعد أحداث الثورة الفرنسية وكانت مؤشراً على بداية النهاية لحكومات المطلقة التي ظلت تهيمن على مقاليد الأمور في أوربا. طيلة قرون أما بإسناد من الكنيسة أو بقوة طغيانها المدني وحده.

إن العالم الحديث وحركات التحرر مدينة بصورة مباشرة وغير مباشرة لنظريات العقد الإجتماعي التي نبهت الشعوب إلى أن لها دوراً في حياة أفرادها والكلمة الفاصلة يجب أن تقولها الشعوب لا الحكومات. ناقشت هذه النظريات لأول مرة الحق الإلهي الذي استند إليه الملوك والأباطرة في حكمهم شعوب العالم. ولأول مرة تجرأت هذه النظريات بالقول(لا أحد يملك الحق الإلهي على حياة الآخرين وإن الله لم يفوظ أحداً لكي يتحكم بمصائر ملايين البشر ويسوقهم وفق رغباته وأهوائه).

x