نماذج من ازمات المدينة الاجتماعية والثقافية في العراق

اولا : الازمة الاسكانية اسبابها وتداعياتها 

     تعد مشكلة السكن من المشكلات الرئيسية والاولية لسكان العالم الثالث ، ولعل تجلياتها تبدو اكثر وضوحا كلما اوغلنا في دراسة المجتمعات المتخلفة ، التي تتسع فيها المشكلة الانفة اتساعا يبدو لاي مراقب انها مشكلة عصية على الحل ، والحجة في ذلك ان اساسيات المشكلة متعمقة بقوة في بنية هذه المجتمعات ، الى جانب القصور الواضح في مراكز القوة تجاه التعاطي مع هذه المشكلة . وقد تمخض عن اغفال المشكلة او التعاطي معها بشكل خاطىء وعشوائي ، الى بروز تداعيات خطيرة هي الاخرى ، اضرت بشكل يدعونا جميعا الى القلق ، كما هو حاصل في تدهور مدننا الى حد لا نميز معه بين ما هو حضري وما هو ريفي ، بل انه يمكن الحديث عن بيئة تتوسط البيئتين المذكورتين ، بيئة لا تعرف هدوءا يذكر سواء في طبيعة السكن الذي يأوي الافراد ، او الضوضاء والفوضى التي يتسبب بها السكن نفسه جراء تزاحمه مع المساكن دون مراعاة للتخطيط ، وبين هذا وذاك ، فان المنطقة الحضرية اصبحت معرضة بقوة لضغوطات هذه البيئة الجديدة ، كتلك التي تتعلق بزحف المساكن العشوائية على حدودها ، وتصدير ملوثاتها نحو الاحياء الحضرية المخططة ، فضلا عن هدر قيمة الارض وما تحتويه من عناصر فاعلة مثل : التربة والماء والهواء .

كل هذا يدعوا من تهمه مشكلة الاسكان ، بان يقف نحوها حذّرّا ، اذا ما اراد ان يكتب عنها ويبين اثارها ، او من يتوجه نحوها بالعلاج ، لان المشكلة متشعبة ، واذا ما اريد مناقشتها فلا بد من ملامسة النقاط المركزية للمشكلة ، والتي نحاول هنا اجمالها قدر الامكان في نقطتين رئيستين هما : اسباب وتداعيات المشكلة ، والسبل او السياسات المقترحة لعلاجها ، واختزالنا هنا للمشكلة لا يعني اهمال النقاط الاخرى المتصلة بالمشكلة ، فانه سيتم في قادم الحديث الاشارة الواضحة لجواهر المشكلة ، كالهجرة بعامة والنمو الحضري / العشوائي للمدينة ، وكل هذا يعد نتيجة ملازمة لازمة السكن .

  • اسباب الازمة الاسكانية

لعل واحدة من الاسباب الرئيسية في تعميق مشكلة الاسكان ، هي الزيادة في عدد السكان ، ونعني بذلك ، زيادة سكان أي مدينة لدرجة انه يفوق بشكل كبير المعدل العام للزيادة الطبيعية للسكان . وقد كان هذا العامل من اهم العوامل التي ادت الى نشوء مشكلة السكن في بغداد ، اذ ان معدل الزيادة في توفير الدوّر الجديدة لم يكن ملائما للزيادة في عدد سكان بغداد ، ولما كانت تلك الزيادة ناتجة عن نمط مؤثر تمثل بالهجرة ، فلا بد اذن من تحليل لابعاد هذه الظاهرة وعلاقتها بازمة السكن . فالمهاجرون في العراق والذين نزحوا الى مدينة بغداد ليسوا من الفلاحين الريفيين وحسب ، بل هم من مختلف القطاعات ومن المدن الاخرى وحتى من داخل مدن المحافظة نفسها[1] (الهيتي ، مصدر سابق ، ص250 ) .

وقد تميز طابع الهجرة في العراق ، وفي بادىء الامر ، بانه اختلف عن نمط الهجرة العام في العالم ، اذ ان الهجرة في العراق اقتصرت على التوجه نحو مدينة بعينها ، دون تعددية في المقصد ، أي ان هناك مراكز متعددة تتوجه نحوها الهجرة ، وهو ما يميز نمط الهجرة في بلدان اخرى ، وقد حدثت الهجرة بشكل واضح بين الفترة المحصورة (1947ـ 1957 ) ، اذ اتجه اكثر المهاجرين نحو بغداد التي كانت تمثل المدينة المركزية ، التي تتجمع فيها كافة الانشطة ، رغم وجود مدن اخرى كالموصل والبصرة ، الا انهما لا يشابهان بغداد في التصنيع والعمران (الانصاري ، فاضل ، ص11) . ويذكر هنا ، ان ظاهرة الهجرة نحو بغداد في الفترة المذكورة اعلاه وما بعدها شكلت ظاهرة بارزة ، وكمشكلة متزايدة توضحت اكثر فاكثر منذ الحرب العالمية الثانية . وفي الفترة ما بين الخمسينات وبداية الستينات اصبح اكثر من (1/3 ) مساكن المدينة عبارة عن اكواخ وصرائف (عشش) باشكال مختلفة فرضها المهاجرون بطريقة غير قانونية[2] (الاشعب ، د.خالص، مصدر سابق ، ص111) .

لقد بلغ عدد الساكنين في بغداد ممن لا يعتبروا سكانها اصلا حوالي (35%) من مجموع السكان لسنة 1957 ، كما قدر (73%) من هؤلاء انهم قد جاؤوا من محافظة ميسان . وفي نهاية سنة 1960 ، بلغ عدد ( الصرائف ) في بغداد (44000) صريفة مما يعادل (45%) من مجموع بيوت المدينة وقتذاك ، وبنفوس قدرهم (250) الف نسمة او ما يعادل ربع سكان المدينة . وقد استمرت اعداد المهاجرين بالارتفاع مما يؤشر استمرار مشكلة الهجرة معها ، اذ بلغ عدد المهاجرين سنة 1962 (90) الف اسرة ، ليستمر هذا العدد بالتزايد حتى سنة [3]1965 (المصدر نفسه ، ص113 ) . هذا وقد مثلت اسباب هجرة السكان نحو بغداد بحزمة من الاسباب ، كانت من بينها هو البحث عن عمل ليوفر دخل اعلى بواقع (80%) تقريبا من جملة المهاجرين . في حين مثلت الاسباب الاخرى لا سيما الروابط العائلية وتوفر الخدمات الصحية والاجتماعية ، وتوفر مجالات التسلية ، وتوفر فرص التعليم نسبا متقاربة بواقع (7%) تقريبا و (3,4%) لفرص التعليم[4] (المصدر نفسه ، ص114 ) ، ( وللمزيد ينظر : نايف ، عبد اللطيف عبد الحميد ، المناطق المتخلفة في بغداد ) .

وعموما ، فان نمط الهجرة السالف الذكر ، لم يبقى على حاله دون تغيير حصل ، ليؤشر مرحلة جديدة ، اخذت من خلالها الهجرة تتركز في اكثر من مكان حضري . ففي عام 1977 كانت الى جانب بغداد البصرة وكركوك واربيل والسليمانية من بين المدن الاكثر استقبالا للمهاجرين ، وفي تعداد عام 1987 ، فان اربع محافظات هي : بغداد والسليمانية واربيل والبصرة قد اجتذبت (61%) من المهاجرين من المحافظات الاخرى . لكن مع هذه التعددية في المراكز ، الا ان بغداد بقيت في مقدمة المحافظات الاكثر جذبا للسكان ، اذ بلغ حجم صافي حركة الهجرة اليها (476282 ) نسمة ، اذ تشكل الهجرة الداخلة اليها نسبة (46%) من اجمالي حجم الهجرة الداخلة ، ويعود ذلك الى قوة عوامل الجذب فيها ـ كما اسلفنا ـ (التقرير الوطني الثاني حول سكان العراق ، ص92ـ93 ) .

لم يكن الحراك السكاني في العراق ، محددا عن طريق الهجرة الريفية ، وانما شهدت السنوات التي تلت عام 2003 حراكا سكانيا واسعا وبحجم كبير ، ويعود السبب الى عمليات الهجرة القسرية ، والنزوح الاجباري بسبب العنف الذي في مناطق عرفت بـ (المناطق الساخنة) في العراق ، وهذا بطبيعته يمكن ان يشكل عاملا خطيرا في تغيير خارطة التوزيع الجغرافي والاجتماعي للسكان ، مما اخل هذا في توازن العلاقة ” الاشكالية ” بين عدد السكان بداعي نمطي الهجرة المذكورين ، وعدد الوحدات السكنية ( المصدر نفسه ، ص95 ) . وعند القاء نظرة فاحصة حول الاسباب التي ادت الى التهجير القسري ، فانه بلا شك تختلف عن اسباب الهجرة الريفية ، وهو امر لابد من ايضاحه في الجدول الاتي* :

اسباب النزوح الداخلي %
الخطر المباشر على الحياة 61
العنف المعمم 47
المغادرة بدافع الخوف 40
الاجلاء الاجباري عن الاملاك 25
النزاع المسلح 10
اسباب اخرى 1

* المصدر : منظمة الهجرة الدولية ( النزوح في العراق ) ، مراجعة لعام 2007 ، ص5 .

وعندما تم الاستفهام من عينة مختارة ممن تعرضوا للنزوح عن اسباب نزوحهم ، فان (86%) ممن شملهم التقييم ، ذكروا ان سبب نزوحهم يعود الى انتماءاتهم الطائفية . في حين قال (11%) انهم لم يشعروا بالاستهداف بشكل خاص . بينما ذكر (6%) الاراء السياسية سببا لنزوحهم و (4%) الهوية العرقية . هذا ولم تختلف الاجابات كثيرا بين الذين نزحوا عام 2006 وعام 2007 (منظمة الهجرة الدولية ، ص5) . لقد باتت مشكلة التهجير ، واحدة من التحديات المجتمعية في سياق التنمية المجتمعية ، ولتأكيد المعطيات الاحصائية ، فان عدد الاسر المهجرة بداعي العنف الطائفي في جميع انحاء العراق ، وكما اعلن وزير الهجرة والمهجرين عام 2006 ، بلغت (27000) الف اسرة ، كما تؤكد ذلك العديد من الدراسات الحديثة ، لا سيما دراسة الهلال الاحمر العراقية ، الى ان مستويات التهجير القسري الداخلي ارتفعت الى حوالي مليوني شخص في نهاية شهر اب 2007 (مصطفى ، د. عدنان ياسين ، ص71) . ان الاراء المذكورة تدل بلا شك ، على دور الانتماءات الطائفية في تشكيل نمط تصورات جديد تجاه الافراد والجماعات ، وهو امر اعاد النظر في العلاقة ما بين المكان والسكان ، مما شكل انقساما في الهوية الوطنية ، وسبّب ايضا ضررا تمثل في سوء العلاقة بين زيادة عدد السكان بداعي الهجرة الريفية والهجرة القسرية ، وبين عدم استيعاب القاعدة السكنية لهذه الزيادة .

[1] . الهيتي ، صالح فليح حسن ، تطور الوظيفة السكنية لمدينة بغداد الكبرى (1950-1970) ، ط/1 ، (مطبعة دار السلام ، بغداد ، 1976) ، ص250

[2] . الاشعب ، د. خالص ، مدينة بغداد نموها بنيتها تخطيطها ، (دار الجاحظ ، بغداد ، 1982) ، ص111

[3] . المصدر نفسه ، ص113

[4] . المصدر نفسه ، ص114 ، وللمزيد ينظر : نايف ، عبد اللطيف عبد الحميد ، المناطق المتخلفة في بغداد ،

x