التطور التأريخي لعلم الاجتماع

أ- لمحة تاريخية

إن التجمعات الإنسانية الأولى التي اتخذت شكل القبائل والعشائر والأمم والمجتمعات هي جزء متأصل في ثقافة البشر ودلالة قوية على اعتماد الناس على بعضهم البعض في تخطى المشكلات والعقبات وتحقيق التقدم والازدهار. فالاستعانة بالآخر ضرورة من ضرورات البقاء وأساس من أسس الوجود الإنساني على كوكب الأرض, الذي يأخذ شكل المنفعة المتبادلة بين الأشخاص من خلال التبادلات التجارية أو غيرها من أشكال التبادلات الاجتماعية التي تحافظ على وحدة الصف وتماسك المجتمع, وهي عادة ما تأخذ الشكل الطوعي تحت مظلة الجماعة.

ومنذ ذلك الحين, والبشر يلاحظون ويتأملون المجتمعات والجماعات التى يعيشون فيها. ومع ذلك فعلم الاجتماع علم حديث, لا يزيد عمره على قرن واحد من الزمن وضعه أوجست كونت (أبو علم الاجتماع) فى تصنيفه للعلوم – من الناحيتين المنطقية والزمنية – فى مرتبة تالية على العلوم الأخرى, بوصفه أقلها عمومية وأكثرها تعقيداً على الإطلاق. كما لاحظ أحد علماء الأنثربولوجيا المحدثين أن علم دراسة المجتمع البشري لا يزال بعد في مرحلة طفولته الأولى. وبالرغم من ذلك, فإننا يمكن أن نجد فى كتابات الفلاسفة, والمفكرين الدينيين, والقانونيين في جميع الحضارات وعلى مدى جميع العصور بعض الملاحظات والأفكار التي تتصل بعلم الاجتماع الحديث(1).

وقد ظهرت الإرهاصات الأولى لعلم الاجتماع في أحضان الدراسات الفلسفية عند القدماء, فبدت عند أفلاطون (349 ق.م) في الجمهورية والسياسي والقوانين. كما تمثلت عند أرسطو (322 ق.م) في نظرياته في السياسة والاجتماع في كتاب السياسة. وتجلى التفكير الاجتماعي في دراسات فلاسفة المسلمين من الفارابي (950م) في السياسات المدنية وآراءه في أهل المدينة الفاضلة, وابن خلدون (1406) في مقدمته, وقد أسماه علم العمران البشري. وكان هدفه كشف القوانين التي تفسر الظواهر الاجتماعية, وليس تحقيق الإصلاح الاجتماعى كما كان الحال عند أفلاطون وأرسطو. إذ أخذ يدرس العمران ونظمه ويرجع الظواهر إلى قوانين ثابتة دون أن يردها إلى الأهواء والمصادفات, أو يرجعها إلى القوى الخفية إو إرادة الأفراد, فكانت حتمية الظواهر. ثم جاء أوجست كونت (1857), فميز بين الظواهر الاجتماعية والظواهر الفردية، وجعل الأولى موضوعاً لعلم واقعي وضعي يعالج بمناهج الملاحظة الحسية وأطلق عليه علم الاجتماع (2).

وعلم الاجتماع يهتم بكل ما يمكن أن يكون موضوعاً للتفكير عند الحديث عن المجتمع. لذا فإنه كان موجوداً بشكل أو بآخر من قبل أوجست كونت (أبو علم الاجتماع) بوقت طويل, حيث كانت هناك اجتهادات عامة يطلق عليها القانون الطبيعي Natural Law, كما كان هناك البحث في إنتاج وتوزيع الثروة التي تشكل مضمون الاقتصاد. وقد صارت تلك التخصصات من معالم العالم المعاصر منذ قيام النهضة الأوروبية. وبالعودة للعصور القديمة, نجد أن العديد من إشكاليات علم الاجتماع قد دخلت ما أسماه أرسطو بالسياسة. فعلى سبيل المثال كان المؤرخون المهتمون فقط بالسرد – دون حتى توضيح ما يكتبوه – مضطرين بشكل أو بآخر لاستخدام علم الاجتماع في دلالاتهم فيما نسميه الآن بالسياق الاجتماعي أو البيئة(3).

ويمكن إرجاع المرحلة التمهيدية لعلم الاجتماع (أو مرحلة ما قبل علم الاجتماع Pre-Social) إلى فترة طولها نحو مائة عام تمتد تقريباً من 1750 حتى 1850. أو لعلنا نقول أنها تمتد منذ نشر مونتسيكو كتابه “روح القوانين” حتى ظهور أعمال كونت وصدور الكتابات الأولى لـهربرت سبنسر. أما الفترة التي تشكل فيها علم الاجتماع كعلم مستقل, فتشغل النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ويمكننا أن نتبين من العرض الموجز لأصوله بعض السمات التي اتصف بها علم الاجتماع في بداياته الأولى. فقد كان أولاً ذا طابع موسوعي, إذ كان يهتم بالحياة الاجتماعية للإنسان في مجموعها, وبالتاريخ بأكمله. ثم كان ثانياً تطورياً, وذلك تحت تأثير فلسفة التاريخ, مدعمة بواسطة نظرية التطور الحيوي, فكان يسعى إلى تحديد المراحل الرئيسية للتطور الاجتماعي. ثم صار الباحثون يعتبرونه علماً وضعياً له نفس طابع العلوم الطبيعية. فقد كانت العلوم الاجتماعية تفهم بصفة عامة إبان القرن الثامن عشر على أنموذج الفيزياء, أما علم الاجتماع فكان يفهم في القرن التاسع عشر على أنه نموذج علم الحياة. ويبدو ذلك واضحاً في الاهتمام الكبير بموضوع التطور الاجتماعي, وفي التصور الذي كان سائداً عند الأغلبية والذي كان المجتمع بمقتضاه كائناً حياً. ويبدو هنا الاهتمام العام بالطابع العلمي لعلم الاجتماع (4).

كما كان هناك من قبل علم الاجتماع عدد من الحركات قبل الاجتماعية pre-sociological movements  تصدى لها باحثون قبل بداية التوجه السوسيولوجي . فالباحث الاجتماعي قد ينظر للمسئولين عن إلغاء الرق في المستعمرات البريطانية على أن لهم رؤية سوسيولوجية . كما أظهرت دراسة ” تشالمرز” Chalmers  الموضوعية عن “التبعية فى أبرشية أدنبرة” وسياسته التي فاقت عليها هذه الدراسة توجها سوسيولوجيا . و” بينيل” Pinel  الذي توصل في دراسته عن نتاج الطرق التقليدية في علاج الجنون أنه لابد من ألغاء القيود من على الشخص المجنون وتبنى أساليب انسانية في علاجه والتفاعل معه، قد تصدى لهذه المشكلة كما كان سيفعل عالم اجتماعي معاصر ” بنكاريا ” Beccaria الذي واجه بصراحة آثار الطرائق القديمة في علاج الجريمة واقترح وسائل أخرى تقوم على اساس دراسة النتائج، يمكن النظر إليه كعالم اجتماع.

وما يلفت الانتباه في الأمثلة السابقة هو أن كل هؤلاء الرجال قد تبنوا اتجاهات جديدة في دراسة المشكلات الاجتماعية. فقد رفضوا القبول بالتوجهات والسياسات التقليدية. وتشكلوا في مدى فاعلية السياسات السائدة. كذلك فقد سعوا لفهم العمليات التي أدت للنتائج التى يلحظونها. وهذا ما يجعل مثل هذه الارهاصات توصف على أنها نهج قبل سوسيولوجى لعلم الاجتماع(5).

فضلاً عما سبق, فلقد ارتبط علم الاجتماع في بداية ظهوره ارتباطاً قوياً بالتاريخ, وعلى الأخص فلسفة التاريخ؛ التي من خلالها صاغ بعض المفكرين “قوانين” تحكم تطور الجنس البشري. فعلى سبيل المثال نجد “فيكو” Vico (1668-1744) في مؤلفه “العلم الجديد” (1725) يذهب إلى أن التطور الاجتماعي يعد عملية دقيقة يمكن فهمها واستيعابها, وأن كل الحضارات الإنسانية لابد وأن تمر بمراحل ثلاثة أساسية. وتتابع هذه المراحل بانتظام بحيث تتجه هذه الحضارات من المرحلة الأدنى إلى المرحلة الأعلى. أما “فيرجسون” Ferguson  (1723-1816), فقد أشار إلى “أن التفكير في حد ذاته يعد مهنة في عالم يخضع لتقسيم العمل” (6).

ويعد تاريخ علم الاجتماع مدخل دائم لعلم الاجتماع في الوقت الراهن. فالماضي يحتل درجة الأفضلية, لما اتسم به علماؤه من جدية وعمق, ولما تميزت به موضوعاته من العمق وجدارة البحث. الأمر الذي جعله في نهاية الأمر علماً راسخاً له مكانته في المجتمع الأكاديمى(7).

وهنا قد تثار تساؤلات على شاكلة: ما هو تاريخ علم الاجتماع؟ ولماذا هو مهم؟ وطرح هذه التساؤلات لا يعني بالضرورة الاجابة عليها, بقدر ما يعني التفكير في متضمناتها. فتاريخ علم الاجتماع غالباً ما ينظر إليه على أنه تاريخ المؤسسات. وبتفسير هذا السؤال على هذا المحمل, أننا نهتم في عملية التأريخ تلك بوضع تواريخ وأسماء علماء الاجتماع ومؤلفي المقالات والكتب وتواريخ نشرها وعرض للمعاهد البحثية والمنشورات المهنية, خاصة الصادرة عن المؤسسات في البلاد التي ظهر فيها علم الاجتماع في القرنين التاسع عشر والعشرين .

وبطبيعة الحال, فإن تلك البيانات والمعلومات ذات أهمية في استكمال الصورة التاريخية لهذا العلم, لكن بالرغم من ذلك هناك تاريخ لعلم الاجتماع بخلاف هذه العناصر, تاريخ نعرفه جيداً ونجتمع على القبول به ونسعى للإضافة عليه لنجعله أكثر تكاملاً. أي أن هناك قاعدة معيارية عامة متفق عليها للنظر لتاريخ علم الاجتماع.

بيد أنه, يمكن النظر فيما وراء هذه القاعدة المعيارية العامة وحقائقها الراهنة. نظرة تدل على أننا معنيين ليس فقط بتاريخ هذا العلم ونشوئه وتطوره, بل أيضاً نحن بحاجة لمعرفة لماذا أنشأ علم الاجتماع وتطور بالطريقة التي أنشأ بها, ومن شارك فعلياً في عملية النشوء والإرتقاء تلك, ومن الذي تم إقصائه أو تهميشه, وما المجالات والفروع العلمية الأخرى التي أسهمت في تطور علم الاجتماع وكيف قامت بذلك, وما الصراعات والتوترات التي حدثت فى هذا الخضم, وأين نجد النظرية والتطبيق لعلم الاجتماع في الفترات المختلفة, وما القضايا والموضوعات التي ألهمت المفكرين لإثراء هذه الطريقة المبتكرة فى النظر للعالم, وما هي القوى التي جعلت وجود علم الاجتماع ضرورياً؟

فحقيقة الأمر، أن هناك أكثر من تاريخ لعلم الاجتماع. فقد يقوم أحد الباحثين – على سبيل المثال – بالبحث في تطور علم الاجتماع من حيث علاقته بالعلوم الأخرى. مثال على ذلك، ما ناقشه “بيتر بورك” Peter Burke في كتابه “التاريخ والنظرية الاجتماعية” History and Social Theory عن الارتباط بين التاريخ وعلم الاجتماع، بهدف إظهار أطر التكامل العلمية ومناطق الابتعاد والتقارب، حتى أنه يتسائل البعض عما إذا كان علم الاجتماع ضرورياً للتاريخ، وإذا كان التاريخ هاماً لعلم الاجتماع. فقد شاب كل الفرعين تغيراً في الاتجاهات والمحاولات والمساعي للتمايز والاستقلالية. واليوم صار علم الاجتماع أكثر مهنية وله تعريف مؤسساتي واضح وأكثر تركيزاً على مشاهد المجتمع المعاصر. وبالتالي فإنه صار أكثر توجهاً للانسحاب من الاهتمام التاريخي. وربما يرجع هذا التوجه كذلك إلى طبيعة النموذج الثقافى الأمريكى ذاته – باعتبار الأثر الأمريكى الواضح على علم الاجتماع – ذلك لأن الخبرة الأمريكية تنظر للتاريخ على أنه أقل أهمية وقيمة، وذلك في ظل عدم وجود تاريخ أمريكى يمكن للخبرة الأمريكية الوقوف عليه، فتاريخ الولايات المتحدة كله لا يربوا على المائتي عام, بخلاف ما هو عليه الأمر في أوربا. فضلاً عن ذلك، فإن مطلب إضفاء الطابع العلمى على علم الاجتماع جاء نتيجة التحول في الاهتمامات بعيداً عن الماضي. ويوضح “ألبيون سمول” Albion Small  في كتابه “أصول علم الاجتماع” (1924) The Origins of Sociology، أن علم الاجتماع جاء للوجود في سياق نضوج العلوم الاجتماعية ككل. فعلم الاجتماع بمثابة تطور طبيعي للفكر البشري من التطور الأقل للتطور الأعلى في التعامل مع الواقع الإنساني. كما أكد سمول أن تأسيس علم الاجتماع تم أيضاً على يد من هم خارج الدوائر الأكاديمية أو المهمشين عنها، ممن كان لديهم الحافز لكشف النقاب عن العالم الخارجي والمهتمين بفهم وإجابة تساؤلاته وحل المشكلات الاجتماعية (8).

وتاريخ علم الاجتماع مكتوب من قبل علماء الاجتماع وموجه لهم، وهو نفس المنطق الذي تسير عليه كل العلوم الاجتماعية الأخرى. فدراسة تاريخ نشوء العلم وتطوره ضرورية لأنها تساعد في تشكيل تساؤلات جدية والكشف عن المشكلات المنسية. وقد بدأ الاهتمام بتاريخ علم الاجتماع منذ الإرهاصات الأولى لهذا العلم. فعلماء الاجتماع الأوائل فى أوربا وأمريكا الشمالية (مثل كونت ودوركايم وفيبر وسمول وغيرهم) قد أدركوا الحاجة لتحديد أصول علم الاجتماع وفهم طريقة نشوئه وعلاقته بالفلسفة والتاريخ والاقتصاد وحتى الأدب.

وقد انتهج هؤلاء العلماء طريقة البحث الاجتماعي في سياق التطورات التاريخية مع الأخذ في الاعتبار سياق الخبرة الإنسانية والتشكيلات الاجتماعية التي كانوا يحاولون تقديم شروحات لها. فضلاً عن ذلك، فإن مؤسسي علم الاجتماع كانوا يتمتعون بوعي ذاتي أصيل بعمليات البحث الاجتماعي. فقد أكدوا على أنه ليس بمقدور الفرد فهم الظواهر الاجتماعية خارج نطاق سياقها وتطورها التاريخي، ولا يمكن له استشعار الخبرة الاجتماعية ككل دون أن يحظى بدرجة من الوعي بنشوء تلك الخبرة عبر الوقت، بما في ذلك الأشكال الغالبة والقضايا الأساسية والمشكلات والاستنتاجات البحثية الجوهرية.

وأخيرا، فإن علماء الاجتماع الأوائل كانوا مهتمين بالغرض من علم الاجتماع؛ فالمقصد من وراء هذا السعي كان استخدام هذه الاستنتاجات والمعرفة الجديدة النامية عن البحوث السوسيولوجية المبتكر، في خدمة المجتمع، وذلك من خلال تقديم قاعدة أساسية للسياسة الاجتماعية والإصلاح الاجتماعي. لذلك، كان هناك دائماً اختبار للدور المنوط بعلم الاجتماع أن يلعبه في المجتمع، وكيف له أن يتناول القضايا المجتمعية اليومية والمواقف الحياتية الواقعية ومشكلات الناس العاديين، ولا نغفل في الوقت ذاته البحث في جودة الحياة في المجتمع الحديث.

وبدراسة تاريخ علم الاجتماع، يتضح أن كلا من الباحثين الأوائل والباحثين المعاصرين في علم الاجتماع لديهم إدراك مشترك بضرورة فهم تاريخ علم الاجتماع كحقل معرفي وكمنظور للعالم وكمحدد للوعي الذاتي المبين لكيفية وسبب الاهتمام بعلم الاجتماع بوصفه موجه يحدد للفرد كيف يعيش في العالم(9).

وقد بدأ علم الاجتماع يأخذ طابعه المؤسسي فى الفترة 1890- 1920, عندما دخل الجامعات التي منحته التفاضل المعرفي والاستقلالية المؤسساتية. وبعد هذه المرحلة, زاد الاهتمام بتحديد هذا المجال المعرفي ووضع حدود مميزة له. ومنذ ذلك الحين, لم يعد تعريف علم الاجتماع يمثل إشكالية, بل صار تدريس أسسه ومبادئه هو المشكلة الرئيسة. فمن اليسير ملاحظة أنه منذ ثلاثينات القرن العشرين, بدأت المراجعات والكتب المتخصصة يقل اهتمامها شيئاً فشيء بالأسئلة المتعلقة بتعريف علم الاجتماع. بل على العكس, اتجه الاهتمام حيال نهج تأريخي لتحديد هوية المجال.

وفي غضون هذا الاهتمام بتاريخ علم الاجتماع, تم بناء قاعدة معرفية راسخة له. وبالرغم من ذلك, فإن تشكيل الهوية التاريخية لعلم الاجتماع تؤدي أحياناً إلى شيء من التشتت. ففي عقد الثلاثينات, قام علماء الاجتماع بإعادة تعريف هذا الحقل المعرفي بشكل مختلف تماماً عما كان عليه في بدايته. ففى حين أن علم الاجتماع في إرهاصاته الأولى كان يرفض أي محاولة لإضفاء الشخص على المجال personalization من خلال الإصرار على التحديد المعرفي له, فإن من أعادوا كتابة تاريخه تناسوا توجهه السابق نحو الاستقلالية, من خلال تركيزهم المفرط على الدور التحديدي المفترض لرواده المؤسسين, فشخصنوا العلم من حيث لم يكونوا يدركوا ذلك. أما الرواد المؤسسين فكانوا بمثابة وحدات تواصلية تقوى الذاكرة التكرارية الاستطرادية للمجال. فقد جاء تأصيل هذا العلم من خلال عملية إثراء للمعنى semantic تسعى لتكوين بنيتها الخاصة خارج نطاق الأشياء والتقانات والطرائق المتنوعة, كما جاء من خلال عملية الإدراج والإقصاء للحقول الرمزية البديلة(10).

ولاشك أن الفلسفة الاجتماعية التي سادت خلال القرن الثامن عشر – بمعانيها الصريحة والضمنية – قد شكلت مصدر إلهام للعلوم الطبيعية والاجتماعية, وأسهمت – بالتالي – فى حدوث الثورة الفرنسية, التي شكلت – بدورها – نقطة انطلاق للفلسفة الاجتماعية – وعلى الأخص جوانبه النظرية وقضاياه – نتاجاً لعملية الإحياء الفكري. وربما كان ذلك هو السبب فى ظهور تناقض صريح, بدأ أوضح ما يكون في محاولة التوفيق بين حتمية التغير من ناحية, والنظام الاجتماعي المعارض له من ناحية أخرى (11).

وقد اتسم تطور الفكر الأكاديمي عامة وللعلوم الاجتماعية على وجه الخصوص أثناء القرن العشرين بعملية سريعة ومتواصلة من تراكم كميات هائلة من المواد العلمية. حيث صار هناك تراكم هائل من النتاج الأكاديمي. وبالتالي, أصبحت العلوم الاجتماعية صارت في موقع مختلف تماماً في بداية القرن الحادي والعشرين عما كانت عليه في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.

لكن, ما هي خلفية هذا التغير؟ لقد كان لوضع حدود واضحة للعلوم الاجتماعية أهمية  قصوى في هذا الصدد. حيث تم فصل العلوم الاجتماعية في موضوعات مستقلة؛ مثل التاريخ وعلم الاجتماع والعلوم السياسية والتربية والدراسات الإعلامية والجغرافية وبعض الموضوعات الاخري. وصار لتلك العلوم مكانتها المميزة وموضعها المستقل في الجامعات وفي المجتمع الأكاديمي (12).

ومن الجدير بالذكر أن تطور الحقل العلمي يسير جنبا إلى جنب مع باقي التغيرات المجتمعية الأخرى. فالإطار العام للمهن المختلفة قد تغير, وتطورت معه المبني الاجتماعية والاقتصادية وفرضت العديد من السمات الجديدة. فضلا عن ذلك, فإن ما يستجد على المجتمع يجلب معه تساؤلات ومناقشات جديدة تعكس الملامح الجديدة للمناخ الثقافي والجدل الفكري وتشكل عملية التغير التاريخية(13).

وفى عقد الخمسينات, صار علم الاجتماع فرعاً مستقلاً, يهيمن عليه ما يسميه “جورج ستينمتز” George Steinmetz الوضعية المنهجية  methodological positivism التي عرفها من المنظور المعرفي epistemology كبحث عن القوانين, ومن المنظور الوجودي antilogy  كمنهج إمبريقى (تجريبي) ومن المنظور المنهجي methodology كمذهب علمي أو مدرسة طبيعية. وقد كانت الرؤية العامة التي تميز الحقل السوسيولوجي قبل وبعد الحرب العالمية الثانية تجلى أهمية التحول المعرفي لهذا الفرع من العلم. وكان أثر عقد الستينات على علم الاجتماع كبيراً, حيث كان هناك توجهاً نحو علم اجتماع عام ذو نزعة تطبيقية أقل وتوجه يساري غالب (14).

والسؤال الذي يطرح نفسه, هو ما إذا كان التقدم العلمي الذي يمكن ملاحظته فى العقود الأخيرة فى الغرب له نفس النتائج على المستوى العالمي, أم أن هناك اختلافات بين الدول والأفراد المختلفين. والإجابة عليه واضحة بطبيعة الحال. فما من شك أن الأثر الواقع على كل بلد يعتمد على العديد من العوامل, خاصة نظم التعليم الوطنية والسياق التاريخي السياسي الذي تحدث فيه(15).

وحيث أن أي علم من العلوم غايته النهائية هو الإنسان, سواء نظرنا إليه من منظور بيولوجي أو اقتصادي أو سياسى أو إداري أو أخلاقي, إلا أن هؤلاء جميعاً بحاجة إلى معرفة الإنسان الاجتماعي الذي تتمثل فيه حركة المجتمع الإنسانى وتغيره.

فالطب الاجتماعي هو أسمى ما يهدف إليه المتخصصون في الطب, والهندسة البشرية هي عصب كافة فروع الهندسة, المعمارية أو المدنية أو التكنولوجية. وعادات الناس وأذواقهم وأنماط حياتهم في الاستهلاك والإنتاج والمبادلة ليست بمنأى عن أي تخطيط اقتصادي يضع في اعتباره القوى والموارد الأخلاقية والروحية القائمة والممكنة جنباً إلى جنب مع القوى والعناصر المادية والفنية والبشرية القادرة على إشباع الحاجات وتلبية التطلعات الإنسانية التي لا تحكمها حدود.

ويبدو أن جميع الظواهر التي نشاهدها تتعاون متشاركة بعضها مع بعض, فالظاهرة الدينية والظاهرة الجغرافية والظاهرة التاريخية والظاهرة الأخلاقية والظاهرة السياسية وجميع الظواهر السلوكية التي تبدو فردية في شكلها هي في مجموعها ظواهر “اجتماعية” متكاملة ومتعاونة تسير جنباً إلى جنب سواء بسواء (16).

ومع أن الفكر الاجتماعي يضرب بجذوره منذ الحضارة الفرعونية والصينية مروراً بالفكر الاجتماعي عند الإغريق, فالفكر الاجتماعي الرومانى والفكر الاجتماعي المسيحي فالفكر الإسلامي, إلا أننا هنا سوف نبدأ من الفكر الإسلامي, في محاولة توضيح ما له من صلة مباشرة بموضوع علم الاجتماع أو علم العمران البشرى عند ابن خلدون والذي يعد المؤسس الحقيقى لعلم الاجتماع.

x