الاسهامات العلمية التي قدمها ادموند هوسرول

ان أول كتاب ينشره هوسرل بعنوان “فلسفة علم الحساب: أبحاث سيكولوجية ومنطقية” سنة 1891م. ولم يكن المنهج الفينومينولوجي قد ظهر بعد في هذا الكتاب، إذ كان هوسرل يمارس فيه تحليلاً سيكولوجياً لمفهوم العدد وللمفاهيم المرتبطة به مثل المجموع (بالإنجليزية:Sum) والفئة (بالإنجليزية:Sett)، أي يرد تلك المفاهيم إلى الأفعال الذهنية. وكان هوسرل في ذلك واقعاً تحت تأثير النزعة السيكولوجية في المنطق ومتأثراً بالكانطية الجديدة وخاصة اتجاهها النفسي الذي ظهر لدى هرمان لوتزه. رد هوسرل في هذه الدراسة مبادئ علم الحساب إلى المنطق متأثراً في ذلك بفريجة، ثم حاول تجاوز فريجة برده المنطق نفسه ومعه مبادئ الحساب إلى القوانين السيكولوجية للتفكير. وبعد أبحاثه في الحساب والمنطق تخلى  عن اتجاهه السيكولوجي السابق تحت تأثير النقد اللاذع الذي وجهه له فريجة ورأى أن قوانين الحساب والمنطق لا ترجع إلى الحالات الذهنية السيكولوجية بل إلى أفعال قبلية لوعي معرفي، وميز هذا الوعي المعرفي عن الوعي السيكولوجي، وهذا ما اتضح في كتابه التالي “أبحاث منطقية” والصادر في جزئين في عامي 1900، و1901 على التوالي. ونشهد في هذا الكتاب تحول هوسرل من البحث في سيكولوجية المعرفة إلى البحث في فينومينولوجيا المعرفة التي تختلف عن الاتجاه النفسي في رد المعرفة إلى أفعال معرفية من قبل وعي خالص.
يتكون الكتاب من مقدمة في المنطق الخالص، وستة أبحاث: 1- التعبير والمعنى، 2- الوحدة المثالية للأنواع والنظريات الحديثة حول التجريد، 3- نظرية الكل والأجزاء، 4- التمييز بين المعاني المستقلة وغير المستقلة وفكرة النحو الخالص، 5- الخبرات القصدية ومضامينها، 6- عناصر للبحث الفينومينولوجي في المعرفة.
تهدف “المقدمة في المنطق الخالص” التخلص من النزعة السيكولوجية في المنطق عن طريق رده إلى قوانين قبلية في الفكر لا إلى قوانين سيكولوجية وسلوكية. ويثبت فيها هوسرل أن أساس جميع العلوم واحد، ويسميه نظرية العلم (بالإنجليزية:Wissenschaftslehree)، ونظرية العلم هي نفسها المنطق الخالص، باعتباره منطقاً يبحث عن المبادئ العامة للفكر في الاستعدادات المعرفية للوعي. وينظر هوسرل إلى هذا المنطق الخالص على أنه نسق لكل القوانين والنظريات التي تعتمد عليها العلوم الأخرى والتي تتأسس في المقولات العاملة في هذه العلوم. فبينما تعمل العلوم المختلفة بمجموعة من المبادئ تصادر عليها وتتخذها باعتبارها واضحة بذاتها، فإن المنطق الخالص يبحث في هذا الوضوح الذاتي ويرده إلى قوانين كلية للوعي. كما أن المقولات العاملة في العلوم الخاصة هي ما يضفي المعنى على أي موضوع تتناوله، ومعنى هذا أن إشكالية المعنى بحاجة إلى توضيح بما أن المقولات التي تعتمد عليها لا تجد تبريراً كافياً لها في تلك العلوم. ولا يمكن رد المقولات إلى القوانين السيكولوجية للتفكير، لأنها بهذه الطريقة لن تكون متمتعة بالصحة الكلية والموضوعية، لأن القوانين السيكولوجية ليست إلا حالات ذهنية عامة ولا يمكن أن تكون مصدراً للموضوعية ولا للكلية نظراً لاعتمادها على النسق السلوكي للوعي التجريبي. الحاجة إذن تستدعي بحثاً من نوع جديد وهو البحث الفينومينولوجي.
ويوضح المبحث الأول “التعبير والمعنى” أن التفكير النظري يسير حسب عملية وضع للأحكام – في اتفاق تام مع كانطعلى الرغم من عدم اعتراف هوسرل بذلك – والأحكام تلحق المعنى بموضوعاتها، وهذا المعنى هو التصور أو المقولة، وهو  ذو طابع مثالي، أي أنه فكري خالص يعبر عن فهم الذات وقصديتها نحو موضوعها. والمعنى أيضاً هو الطريقة التي ترتبط بها الذات بموضوعاتها. التصورات أو المقولات إذن هي الوسائل التي تقع بين الذات وموضوعاتها، وهي ذات طبيعة مثالية، أي فكرية وقبلية ولا يرجع مصدرها إلى التجربة. ومن الواضح كيف يتشابه مدخل هوسرل للمعرفة في هذا المبحث الأول مع بداية كانط في تعامله مع المعرفة من منطلق الأحكام، والنظر إلى المقولات التي تترتب على أساسها الأحكام  على أنها هي كل صور المعرفة الممكنة، وإلى المقولات على أنها قبليات في ملكة الفهم لا ترجع إلى التجربة.
ويثبت هوسرل في المبحث الثاني “الوحدة المثالية للأنواع” أن التفكير النظري غير ممكن إلا إذا كان متضمناً حكماً يدرج الأفراد في أنواع، وهذه الأنواع كليات، والكليات لا يرجع مصدرها إلى الخبرة التجريبية بل إن لها واقعية ووجود مستقل عن الجزئيات، وهذا الوجود المستقل هو وجود قبلي. ودليل هوسرل على ذلك أن الحكم “يكتشف” الكلى المتضمن في الجزئي ولا يبحث عنه باستقراء. ثم يتوصل هوسرل إلى أن الكليات المتعددة تنتمي إلى شئ أعلى وأشمل منها وهو فكرة الكلي في ذاته.
ويوضح المبحث الثالث “نظرية الكل والأجزاء” أن العلاقة بين الكل والأجزاء هي علاقة تضمن واحتواء، ثم ينظر إليها على أنها علاقة المضمون بالشكل الذي يحتويه؛ ويعالج الشكل على أنه قبلي غير خاضع للخبرة التجريبية، وعلى أنه القصد الذي يتوجه إليه الوعي في إدراكه للمضمون. وهذا ما يمكن هوسرل من معالجة الأجزاء باعتبارها معانٍ معتمدة في وجودها على الكل الذي يحتويها، متجنباً بذلك إلحاق وجود مستقل للأجزاء وإضفاء واقعية وحقيقة عليها تفوقان واقعية وحقيقة الكل، ومتجنباً أيضاً النزعات الإسمية والتجريبية وخاصة نظريات لوك وهيوم وهامبولت.
ويميز هوسرل في المبحث الرابع بين “المعاني المستقلة وغير المستقلة”، ويؤسس هذا التمييز على التمييز بين المقولة التي هي معنى مستقل، وشبه المقولة (بالإنلجيزية:Proto-Category) التي هي معنى غير مستقل نظراً لاعتمادها الجزئي على الأفراد. والمثال على المقولة هو الموضوع (Object)، أما شبه المقولة فهي “الجسم”، فكل جسم موضوع لكن ليس كل موضوع جسماً. ويهدف هوسرل من هذا المبحث مزيداً من التأكيد على مثالية المقولات، أو قبليتها بالمعنى الكانطي، وهو يوضح أن تعدد أشباه المقولات لا يدل على تعدد المقولات، لأن أشباه المقولات لا تزال مرتبطة بالصفات الحسية للأشياء، وتعدد الصفات الحسية وتعقدها لا يدل على تعدد وتعقد المقولات، ذلك لأنها تبقى كليات بسيطة إليها ترد أشباه المقولات. ويعد هذا المبحث هو أكثر مباحث كتابه اقتراباً من الأفلاطونية التي اتهمه بها الكثيرون.
والمبحث الخامس “الخبرات القصدية ومضامينها” يثبت فيه هوسرل أن المعنى عبارة عن قصد للذات نحو موضوعها ونوع من التوجه الفاعل النشط، وأن المقولة نمط من الفعل المعرفي للذات. ويميز هوسرل في هذا المبحث بين الوعي باعتباره نشاطاً سيكولوجياً والوعي باعتباره حساً داخلياً، أي شعوراً بالذات ووعياً بالأفعال المعرفية التي تقوم بها، وأخيراً الوعي باعتباره وحدة فينومينولوجية للخبرات القصدية والذي سوف يسميه بعد ذلك “الأنا الترانسندنتالي” في “الأفكار”  و”تأملات ديكارتية”، أي الوعي باعتباره قوام العمليات المعرفية والحامل الأساسي لها باعتبارها أحوالاً وأفعالاً له. ومن الواضح ارتباط هذا المبحث أيضاً بنظرية كانط في المعرفة وخاصة باستنباطه الترانسندنتالي للمقولات وإرجاعها إلى وحدة الإدراك الداخلي للوعي أو الوعي الذاتي.

x